خابت كلّ الرّهانات الإقليميّة والدّوليّة لرئيس حزب القوّات اللّبنانيّة، وقريبًا ستخيب رهاناته المحلّيّة استنادًا إلى السّياقات الطّبيعيّة لمسارات الأمور بعد تغيّر الحسابات الاستراتيجيّة للقوى الفاعلة في المنطقة، فهل يعيد «الحكيم» حساباته ويلتحق بركب التّسوية أم يعاند «عاصفة التّهدئة» ويدفع الثّمن مجدّدًا؟
ليس سهلًا على ساكن معراب تجرّع كأس الاتّفاق السّعودي الإيراني وهو الّذي قدّم نفسه خلال سبعة عشر عامًا رأسَ حربة في مواجهة ما كان يسمّيه «الاحتلال الإيراني» في لبنان من خلال حزب الله، وتخلّى، كرهًا، عن نزعته «الفينيقيّة» لصالح عروبة لبنان مقابل «المشروع الفارسي» المفترض.
صحيح أنّ جعجع لم ينس خطيئة اتّفاق معراب الّتي أوصلت الرّئيس السّابق ميشال عون إلى رئاسة الجمهوريّة، وهو يشعر بأنّ جبران باسيل خدعه ويخشى تكرار التّجربة مع سليمان فرنجيّة، لكنّ الصّحيح أكثر أنّه يشعر بالخيبة من التّقارب السّعودي الإيراني الّذي سيضعه على رفّ التّسوية المرتقبة في حال رفضه لتداعياتها على السّاحة اللّبنانيّة.
وليس سهلًا عليه مشاهدة وزير خارجيّة سوريا في جدّة بدعوة من نظيره السّعودي وما يحكي فعليًّا عن عودة معادلة «س.س» بحلّة جديدة، وهو الّذي راهن على سقوط النّظام السّوري في بداية الأحداث الدّامية وتعهّد «بحلق شاربه» إذا لم يسقط الأسد بحلول 2012، وذهب بعيدًا ليقول «فليحكم الأخوان» مع ما يحمله هذا الموقف من خطورة ومجازفة.
آنذاك كانت حسابات جعجع خاطئة، فالرّجل لم يحسن قراءة الواقع الجيوسياسيّ في الشّرق الأوسط، وأخطأ في تقدير قوّة النّظام السّوري المدعوم من حلفائه الإقليميين والدّوليين، فهل يكرّر الأخطاء نفسها؟
الغريب أن يستثمر على الحرب ولا يستثمر على السلّم، فالقوى الّتي تصارعت منذ العام 2011 تصالحت عام 2023 ويبدو واضحًا أنّ تراجع نفوذ أميركا في المنطقة لصالح الصّين وحلفائها والسّعوديّة الجديدة بقيادة وليّ العهد محمّد بن سلمان قرأت هذه التّحوّلات الدّوليّة مبكرًا وساهمت في تثبيت الواقع الجديد.
فما الدّاعي إلى رفع سقف التّحدّي السّياسي في زمن التّسويات؟!
هناك رأي يقول بأنّ جعجع مدرك لما يدور حوله، ولقاؤه الأخير مع سفير المملكة العربيّة السّعوديّة لم يكن مريحًا له، فقد كان البخاري صريحًا معه، حسب أكثر من مصدر، حيث أكّد التزام الرّياض باتّفاقها مع طهران وذهابها نحو تمتين العلاقات الثّنائيّة في المرحلة المقبلة، وكذلك العمل على إعادة سوريا إلى حضن الجامعة العربيّة.
بالتّالي فإنّ سقف خطاب جعجع العالي يأتي ضمن السّياق الطّبيعي لتحسين شروطه التّفاوضيّة وتحصيل الحدّ الأقصى الممكن من المكتسبات في العهد العتيد، بدءًا من حاكميّة المصرف المركزي وليس انتهاءً بآخر موظّف في الدّولة، وفي نهاية المطاف سيلتزم «الحكيم» بما كان أعلنه سابقًا عن تعطيل جلسة أو جلستين ثمّ يؤمّن نصاب الجلسة عندما «تستوي» الطّبخة الرّئاسيّة، وليس مطلوبًا منه أكثر من ذلك ليحفظ ماء وجهه أمام جمهوره.
في المقابل، وفي قراءة لتجربة جعجع السّياسيّة فإنّ توتّر قيادة القوّات ورفعها سقف المواقف إلى حدّ قطع الطّريق على القبول بأيّ صيغة تأتي بفرنجيّة يأتي في سياق العناد والشّخصانيّة الّتي دأب «الحكيم» على ممارستها عند الاستحقاقات المصيريّة، والّذي يصحّ معها توصيف تاريخ زعيم القوّات بأنّه يجيد التّكتيك السّياسي ويخطئ في تحديد الخيارات الكبرى.
فما مبرّر التّهديد بالفدرلة والتقسيم؟ ومن تخاطب القوّات في مواقفها الخارجة عن السّياق العام؟
ليس خافيًا بأنّ السّعوديين أحرص على اتّفاق الطّائف من بعض اللّبنانيين باعتباره إنجازًا تاريخيًّا توقّفت بموجبه الحرب الأهليّة وأعيدت صياغة وثيقة العيش المشترك بين المكوّنات اللّبنانيّة على أرض سعوديّة، وليس منطقيًّا أن يهدّد بنسف الصّيغة تلك من يقدّم نفسه حليفًا أوّلًا للمملكة.
في مراجعة لخطاب جعجع منذ بدء الفراغ الرّئاسي إلى اليوم نجدُ الرّجل في المرحلة الأولى يقدّم نفسه حريصًا على الدّولة ومؤسّساتها والدّستور ومقتضياته فيعلن بأنّه قد يعطّل جلسة أو جلستين إذا نجح فريق الممانعة بتأمين 65 صوتًا لمرشّحه، لكنّه في النّهاية سيخضع للعمليّة الدّستوريّة، وهذا سلوك سياسيّ ووطنيّ مقبول ومسؤول، فما عدا ممّا بدا حتّى يذهب الحكيم “Extreme” في مواقفه؟!
إنّه الشّعور بالخسارة المبدئيّة والاستراتيجيّة وانهيار منظومة أيديولوجيّة كاملة أحسنَ بناءها واستغلالها داخل البيئة المسيحيّة وآتت أكلها في الانتخابات الأخيرة، فصار سجين مواقفه القديمة، وإذا سار بالتّسوية خسر مصداقيّته أمام جمهوره، وهناك جبران باسيل يتربّص به لينقضّ عليه ويعيد تعويم نفسه وتيّاره من بوّابة المعارضة الّتي أحسن عمّه استغلالها، ويترك لجعجع نعيم السّلطة الّتي أحرقت «الرّئيس القوي» وعهده بنار جهنّم، فماذا سيختار جعجع؟
ثمّة من يقول بأنّ نزعة التّقسيم ليست يتيمة، فالولايات المتّحدة ترغب بتثبيت كانتونات خارجة عن السّلطة المركزيّة في لبنان على غرار سوريا والعراق، ورئيس القوّات يعمل على استغلال هذه الفرصة.
ويعزّز هذه النّظريّة انزعاج واشنطن من اتّفاق بكّين، فقد كشفت وكالة «رويترز» النّقاب عن زيارة سرّيّة قام بها مدير وكالة الاستخبارات الأمريكيّة «وليام بيرنز» إلى الرّياض والتقى خلالها وليّ العهد محمّد بن سلمان ليبلغه «صدمة واشنطن من تفاهمه مع إيران برعاية صينيّة ورغبته بالانفتاح على سوريا ودعوة رئيسها إلى القمّة العربيّة رغم العقوبات المفروضة على البلدين من قبل إدارته» ما قد يحدوها إلى عرقلة تقارب الجارين اللّدودين في ساحات التّلاقي الّتي تجمعهما، ولبنان إحدى هذه السّاحات الأساسيّة.
بالمناسبة، لبنان أصغر من محافظة دمشق السّوريّة، وهناك اجتمعت قوى عالميّة وإقليميّة لتقسيم سوريا وفشلت بعد حرب شرسة ما زالت آثارها ماثلة أمامنا، ناهيكَ عن افتقار الفريق «التّقسيمي» إلى أبسط المقوّمات الجغرافيّة والدّيموغرافيّة، وبالتّالي فإنّ فكرة التّقسيم أو الفدرلة تبقى وهمًا غير قابل للتّحقّق وفزّاعة لم تعد تفزّع أحدًا.
ليس من قبيل المبالغة القول بأنّ حزب القوّات اللّبنانيّة وزعيمه على مفترق كبير ويحتاج إلى قرار جريء، فإمّا التّحلّي بالبراغماتيّة السّياسيّة وتقديم الحسابات الوطنيّة على الحسابات الطّائفيّة، وإمّا العكس، وفي الثّانية خسارة أكيدة على المدى المتوسّط والبعيد.