Site icon IMLebanon

ما هكذا تورد الإبل يا حكيم؟

لطالما دعا كثيرون من المعنيين او المهتمّين بالاستحقاق الرئاسي الى تسوية سياسية او تفاهم سياسي بين كل من رئيس حزب «القوات اللبنانية» الدكتور سمير جعجع والمرشح الرئاسي رئيس تيار «المردة» سليمان فرنجية، على خلفية انّ حظوظ الاخير متقدمة على ما عداه من المرشحين سواء كانوا طبيعيين او تَسوويين، وذلك بدعم مسيحي من اكبر كتلة نيابية مسيحية للعهد الجديد. واكثر من ذلك يمكن هذا التفاهم ان يفتح صفحة جديدة في سجل الموارنة وعلاقاتهم بعضهم مع بعض في ظل أخطر مرحلة من تاريخ وجودهم في الشرق بعد الكوارث الوجودية التي حصلت لهم في فلسطين والعراق وسوريا، حيث يبقى لبنان المرتكز الاخير لهم في هذا الشرق، مع العلم التام بالرغبة الاسلامية العميقة في المحافظة على الصيغة اللبنانية القائمة والمتمثّلة بالعيش المشترك.

وما زاد هؤلاء المعنيين والمتابعين إيماناً برؤيتهم هذه القديمة ـ الجديدة هو حصول اتفاق سعودي ـ ايراني برعاية دولية صينية وبمؤازرة اميركية، حيث يقوم هذا الاتفاق على أسس في منتهى الثبات ما يرسم خريطة سياسية جديدة للمنطقة، او بمعنى آخر وبصراحة بما ينهي إنهاء النزاع السني ـ الشيعي الذي أنهَك المنطقة برمّتها. وعليه، كان لا بد لنا من ان نشهد لدى كافة شعوب هذه المنطقة الوعي التام لحقيقة التحول الكبير ومن ضمن هؤلاء جزء كبير من المسيحيين في لبنان، ولكن الدكتور سمير جعجع، في مقابلته التلفزيونية الاخيرة، كان له كلام آخر.

 

ومن هنا يسجل المتابعون للاستحقاق الرئاسي وتداعياته عدداً من الملاحظات الاساسية حول هذه المقابلة – الخطاب، وتتلخّص بالآتي:

 

– أولاً، لم يكن جعجع موفّقاً في عملية إنكار التسوية الاقليمية إن لجهة وَصفه للواقع اليمني الحالي او لجهة خريطة الطريق الاتفاق السعودي ـ الايراني الذي يتّجه الى تصفير المشكلات على مستوى المنطقة، فهو لم يقرأ ما يدور في أعماق ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان الذي اختصر الأمر بأنه يسعى الى إنجاز ما سمّاه «اوروبا الشرق الاوسط»، وعندما نتحدث عن النموذج الاوروبي فهذا يعني تعاوناً بين عدد من الدول وليس بين دولتين فقط، ما يعني انّ نظرة بن سلمان تتّجه الى تصفير المشكلات في كافة الدول العربية من دون سواها، ولا سيما منها المشكلات الاكثر قابلية للاشتعال اي بمعنى آخر كافة الدوَل ذات التماس السني ـ الشيعي.

 

– ثانياً، لم يُحسن جعجع قراءة الموقف الايراني الايجابي في الاتفاق مع الرياض بموضوعية بحيث أضعف موقف ايران واعتبَرها منهزمة خائبة طالِبة النجدة، في حين انها تدخل واثقة الخطوة تحمل بين يديها أوراقاً اقليمية ذات فعالية عالية.

 

– ثالثاً، أراد جعجع تغييب الدور الروسي في عملية الدفع بالاتفاق السعودي ـ الايراني خصوصا في سوريا ولبنان، حيث يتمتع هذا الدور بنفوذ مقبول يمكن ان يشكّل ضماناً ما في إنجاز هذا الاتفاق.

 

– رابعاً، قارَب جعجع وضع الرئيس السوري بشار الاسد بخفّة. ففي حين انّ غالبية الدول العربية، ولا سيما منها المملكة العربية السعودية، تسعى الى تعزيز العلاقات الثنائية مع سوريا باندفاعة مُلفتة، أصَرّ جعجع على اعتبار الاسد «جثة هامدة» ضارباً بعرض الحائط سياسة من يعتبرهم حلفاء له، اي دول الخليج.

 

– خامساً، قارَب جعجع ملف الاستحقاق الرئاسي اللبناني سالخاً إيّاه عن الوضع الاقليمي المُستجِد حاصراً التأثير بالمعطى الداخلي من دون سواه، وكأنه تنكّر لواقع تاريخي حول طريقة صناعة الرئيس في لبنان، فراح يقرأ تغريدات لفرنجية، أراد تذكير المملكة العربية السعودية بها وكأنّ الاخيرة لا تمتلك وسائل اعلام او كأنها تجهل الواقع اللبناني وكانت في حاجة الى من يُضيء لها الطريق، علماً انّ المصالحة اليمنية حصلت بعد حرب استمرت لسنوات وسقط ضحيتها عشرات الآلاف وليست في حاجة الى تغريدة لعرقلتها او عرقلة غيرها من التسويات، اذ انه معلوم انّ فرنجية ينتمي الى خط سياسي معين وهو يُجاهر به علناً ولا يُخفيه.

 

 

– سادساً، وقعَ جعجع في تناقضات متعددة فإذا به يتحدى رئيس مجلس النواب نبيه بري ان يدعو الى جلسة لانتخاب رئيس، ثم يعود ويهدد بالمقاطعة اذا ما توافرت لفرنجية فرصة الفوز بالرئاسة. كما انه ذهب بعيداً في لغة الارقام، معتبرا انه يستطيع تعطيل النصاب من دون حاجة الى «التيار الوطني الحر». وبهذا المعنى يكون قد دفع رئيس التيار النائب جبران باسيل خطوة في اتجاه التسوية بعدما تَنكّر لحجم تكتله وبعدم حاجته إليه في عملية التعطيل، علماً انّ القاصي والداني يعرف انّ جعجع وحلفاءه لا يمكنهم تعطيل النصاب من دون «التيار الوطني الحر»، وبمعنى آخر انّ تأييد باسيل لفرنجية يؤمّن فوراً نصاب الـ 86 لجلسة الانتخاب، فيكون جعجع بذلك قد فشل في استمالة باسيل ووَسّع الشرخ بينهما.

 

وتوقّف متابعو مقابلة جعجع المتلفزة عند قوله انه يجهل حقيقة تفكير قائد الجيش، ومن ثم يعود ليؤكد انه ينتخبه اذا ما توافَرت له حظوظ.

 

ـ سابعاً، ذهبَ جعجع الى أقصى درجات السلبية في محاربة فرنجية محاولاً تصويره على أنه «امتداد» لعهد الرئيس ميشال عون وأنه «دمية» في يد «الثنائي الشيعي»، متجاهلاً اموراً عدة أهمها انّ فرنجية لم ينتخب عون وإنما هو مَن دعمه وانتخبه، وبالتالي لا يتحمّل فرنجية نتائج عهد عون. أضِف الى انّ فرنجية يمتلك بطبعه وشخصه خاصية في مقاربة الامور تختلف عن عون وهي ليست خافية على احد، ومنها رغبته التي يكررها دائماً بترك «بصمة سياسية» في الرئاسة اذا تَولّاها لا ينساها اللبنانيون. كما انه يتمتع بهامش واسع في الأداء كما فعلَ مع جعجع عام 1994 عندما صَوّت الى جانب النائب المرحوم مخايل الضاهر ضد حل حزب «القوات اللبنانية» في عزّ الوجود السوري الداعِم للفريق الذي أدخَل جعجع الى السجن. كما انّ حمايته لـ»المؤسسة اللبنانية للارسال» (LBC) واذاعة «لبنان الحر» ومجلة «المسيرة» إضافة الى عدد من التعاونيّات القواتية كانت في ظل مُخاصمة شديدة لعدد من المسؤولين السوريين الذين هَدّدوه في حينه، فكيف لجعجع ان يتجاهل كل هذه المعطيات. وهنا لا بد من التذكير ووفق القراءات حول امتلاك فرنجية هوامش واسعة في العمل السياسي والتي في إمكانها ان تثير خصومة بينه وبين حلفائه، فإنّ موافقته على اعتماد قانون الستين الانتخابي، إبّان تولّيه وزارة الداخلية عام 2004 وتقديمه هدية للبطريرك الراحل مار نصرالله بطرس صفير تسَبّبت بهجمة غير مسبوقة من حلفائه عليه لأنه اعتبر انه لا بد من تعويض المسيحيين ما فاتهم من مكتسبات إبّان الوجود السوري.

 

– ثامناً، سجّل جعجع سابقة خطيرة تصدر عن رئيس حزب كبير تمثّلت بالهجوم الصاعق على فرنسا متهماً ايّاها بالعمل على صفقة اقتصادية في لبنان، ووصلَ به الامر حد التهكّم على الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون عندما دعاه الى «ترشيح فرنجية بعد 4 سنوات في فرنسا»، وفيما اعتبر البعض انّ هذا التهكم «حصل بغطاء اميركي»، تبيّن انّ الامر لم يكن كذلك إذ انّ جميع مَن التقوا مساعدة وزير الخارجية الاميركي باربرا ليف في واشنطن اخيراً سمعوا منها انّ الاميركيين مهتمّون بإجراء الانتخابات الرئاسية اللبنانية مهما كانت نتائجها، ما يعني انّ جعجع ليس على الموجة الاميركية، كما ان المراقبين شعروا انه يجهل حقيقة الموقف السعودي الرسمي من هذه الانتخابات.

 

وفي المحصّلة، يقول المتابعون انّ مقابلة جعجع الاخيرة اكدت بما لا يقبل الشك ان حظوظ فرنجية مرتفعة جدا، فبدلَ ان يَعمد جعجع من خلال تمثيله الى إشراك المسيحيين في الحل الاقليمي عبر تأييد انتخاب فرنجية، سعى جاهداً الى وضع من يمثّلهم خارج التسوية الاقليمية التي لا تأبه لخروج اي مكوّن، لا بل تختصر الامر بأنّ القطار قد انطلق فمَن يستقلّه يلتحق بِركب التسوية، ومَن يفوته سيذهب الى ذاكرة التاريخ.