أثارت المقابلة المتلفزة لرئيس حزب القوّات اللّبنانيّة سمير جعجع الكثير من الجدل حول مقاربته للملفّات الحسّاسة المطروحة في لبنان والمنطقة، فقد بدا «الحكيم» مربكاً ومتناقضاً ولم تكن لغته السّياسيّة على قدر المسؤوليّة الوطنيّة، أو على الأقل المسؤوليّة الحزبيّة الّتي يمثّلها.
العبارات الّتي استخدمها جعجع لا تليق برئيس حزب يمثّل كتلة نيابيّة وازنة وشريحة شعبيّة عريضة، واستحضاره لواقعة تاريخيّة ذات بعد إنسانيّ في معرض الاستخفاف بسياسات دولة إقليميّة وازنة، يعتبر نفسه حليفًا لها، لا تخدم موقفه، واتّهام دولة أوروبيّة كبرى كانت تسمّى «الأمّ الحنون» بإبرام صفقة اقتصاديّه بسبب تبنّيها خيارًا رئاسيًّا لا يتوافق مع توجّهاته لا يصبّ في صالحه.
والأنكى من كلّ ذلك ظهوره بمظهر «الواشي» عندما استعان بأوراق طبع عليها تغريدات سابقة لزعيم تيّار المردة سليمان فرنجيّة، ليذكّر السّعوديّة بتلك المواقف، علّها تضع «فيتو» على اسمه وتمنعه من الوصول إلى قصر بعبدا.
على مدى ساعتين لم يقدّم موقفاً إيجابيًّا من قضيّة مطروحة، بل اكتفى بالاعتراض السّلبي، كرّر رفضه لوصل فرنجيّة أو أيّ اسم من محور الممانعة إلى قصر بعبدا، لكنّه لم يقدّم اسماً بديلاً يمكن الاتّفاق عليه أو بالحدّ الأدنى يكون قادراً على المنافسة، وإذ انتقد سياسة فريق الممانعة ووصفهم «بالغشم» وأبدى خوفه من امتداد عهد الرئيس ميشال عون، الّذي ساهم بإيصاله، لم يخبر اللّبنانيين عن مشروعه وخطّة عمله بشيء من الموضوعيّة بعيداً من الشّعارات السّلبيّة.
السّؤال البديهي الّذي يطرح نفسه: لماذا يسير جعجع عكس التّيّار؟ ولماذا يحرق كلّ المراكب؟
هناك احتمالان لا ثالث لهما:
الاحتمال الأوّل أن يكون زعيم القوّات مطمئناً إلى موقف سعوديّ ثابت في رفض فرنجيّة، ربّما سمع من السّعوديين في الغرف المغلقة موقفاً حاسماً غير المطروح في التّداول، وبناء عليه فهو يضمن عدم إمكانيّة وصول فرنجيّة إلى سدّة الرّئاسة.
لكنّ مقاربته لمتغيّر بحجم الاتّفاق السّعودي – الإيراني لا تتوافق مع هذا الاحتمال، لأنّ جعجع خفّف من القرار الجريء الّذي اتّخذته المملكة العربيّة السّعوديّة بتفاهمها مع الجمهوريّة الإسلاميّة الإيرانيّة برعاية صينيّة، ووضع التّفاهم الّذي أزعج الولايات المتّحدة الأمريكيّة في خانة «اتفاق الإطار»، كأنّ «الحكيم» غائب عن مجريات الأمور وغير متابع لتسارع خطوات التّقارب بين المؤثّرين الإقليميين.
وفي «زحطة» غير محسوبة تنمّ عن جهل بالتّاريخ الإسلامي ورموزه، وربطًا بمفاعيل التّقارب الإيراني – السعودي قال ساخراً: «كأنّه انحل كل شي، من كربلاء لهلق…».
الأمر الذي يعتبر إساءة للمملكة العربية السعودية وما تمثّل من عمق وامتداد إسلامي في اعتقاده بأنّ جذر الخلاف بينها وبين إيران يعود إلى واقعة كربلاء، فهل يعي جعجع ما يقول؟ وهل يعلم بمكانة ومقام الإمام الحسين في الوجدان الإسلامي لدى السّنّة والشّيعة على حدّ سواء؟
ثمّ اعترض جعجع على الانفتاح العربي عموماً والسعودي خصوصاً على سورية، ووصف الرّئيس الأسد بـ «الجثّة السّياسيّة» وبأنّه غير قادر على تقديم شيء للآخرين.
هذه سقطة أخرى تنمّ عن انزعاج كبير لدى الرّجل من حجم التّحوّل الاستراتيجي الّذي تبنّاه وليّ العهد محمّد بن سلمان من أجل إعادة العلاقات إلى طبيعتها رغم الحصار المفروض على سورية، وهو الّذي وعد اللّبنانيين والسّوريين بسقوط الأسد في آذار 2012 يوم وضع يده على شاربه ليقينه من الأمر.
الاحتمال الثّاني، وهو الأقرب إلى الواقع، أنّ جعجع يعرف حقيقة الموقف الفرنسي الثّابت على رأيه بدعم فرنجيّة، ولمس تبدّل لهجة السّعوديّة بعد الاتّفاق مع إيران عمّا كانت عليه قبله.
وقد دحض جعجع، من حيث لا يدري، كلّ الحملات الإعلاميّة السّابقة الّتي شنّها فريقه الإعلامي والسياسي على فرنجيّة بادّعاء أنّ المبادرة الفرنسيّة فشلت، وأنّ السّعوديّة تضع فيتو على اسمه ولا مجال لتغيير موقفها.
ثمّة من يقول بأنّ جعجع يستند إلى موقف أميركيّ يحاول تعكير صفو التّفاهم الإيراني – السّعودي، لكنّ الوقائع تنفي هكذا فرضيّة، ليس لحسن نوايا الأمريكان ولكن بسبب خوفهم على أمن الكيان الاسرائيلي ورغبتهم في تهدئة الأمور في الشرّق الأوسط بانتظار انقشاع غبار الحرب في أوكرانيا.
الأقرب لفهم سلوك جعجع هو مراجعة مواقفه السّابقة ولنا في العام 1989 خير شاهد ودليل، لقد أصبح جعجع 2023 أسير مواقفه الّتي رفعها منذ العام 2005 والّتي قامت على أساس الخصومة وتحدّي «المشروع الفارسي» في لبنان، فقدّم نفسه رأس حربة للمشروع العربي الّذي تمثّله المملكة العربيّة السّعوديّة ليجد نفسه، بين ليلة وضحاها، خارج اتّفاق غير متوقّع بالنّسبة إليه.لم يكن جعجع في أجواء المفاوضات الجاريّة في بكّين، ولم يتوقّع زلزالاً سياسيًّا بهذا الحجم، بل على العكس، كان يراهن هو وغيره على إضعاف إيران من الدّاخل نتيجة الاحتجاجات الّتي انطلقت مع مقتل الشّابة «مهسا أميني» واحتمال تعرّض طهران لضربة إسرائيليّة وربّما غربيّة بعد دخول المسيّرات الإيرانيّة على خطّ الحرب الأوكرانيّة وتأثيرها في مجريات المعركة، لكنّ حسابات بيدر الأحلام لم تأتِ على حسابات حقل الأوهام..
ولم يقف جعجع عند حدود سياسات المملكة العربية السعودية، بل تعدّاها إلى الاستهزاء بدولة كبرى بحجم فرنسا، فاتّهمها بالمقايضة مع حزب الله وإبرام صفقة اقتصاديّة معه، وعلى طريقة النّاشطين على وسائل التّواصل قال بحقّ سليمان فرنجية: «يعملوه رئيس بفرنسا بعد نهاية ولاية ماكرون».
في الخلاصة قدّم جعجع خدمة مجّانيّة إلى سليمان فرنجيّة الّذي سيطلّ غداً على القناة نفسها مستفيدًا من هفوات جعجع؛ أوّلاً بسبب الخفّة الّتي أبداها الأخير في قراءة المشهد الدّولي والإقليمي وأصول التّخاطب مع الدّول الصّديقة، وثانيًا بسبب افتقاره إلى روح المبادرة، فليس لديه حلّ آخر ولا بديل محتمل ليواجه فيه المحور الآخر، وهذا بالضّبط ما تواجه به الدبلوماسيّة الفرنسيّة المعترضين على فرنجيّة: «إذا كان لديكم بديل قدّموه لنا لنبحث فيه».
قبل أسابيع سُئل مرجع وطنيّ كبير عن تقييمه لأداء الثّنائي الماروني الّذي يقوده جعجع بطريقة أو بأخرى فقال: «أحياناً يذهب المنتحر إلى الموت بكامل وعيه» في إشارة إلى اعتماد «الحكيم» قراءات خاطئة عند الاستحقاقات القاتلة..