منذ أكثر من 50 سنة يعيش لبنان في أزمة دائرية لا مخرج منها، تتمثّل تارةً بحروبٍ أهلية وتارةً أخرى باحتلال سوري، ومنذ نحو 18 عاماً، بأزمة سلاح «حزب الله». هذه الأزمة «الكُبرى» تفرز أزمات فرعية تعطيلية للدولة وبالتالي لشؤون اللبنانيين وأوضاعهم الأمنية والاقتصادية والاجتماعية. فعند كلّ استحقاق دستوري يحلّ الشغور والتعطيل والتأخير، بحيث لا يُنجز إلّا بعد تسويات تخرج من رحم اغتيالات وحوادث أمنية أو كوارث وانهيارات اقتصادية ومالية. وما بين هذه الأزمات عامل مشترك: إشتداد الاشتباك السياسي – الطائفي وبروز هواجس ومخاوف وجودية.
بعد نحو 9 أشهر ونصف الشهر على بداية المهلة الدستورية لانتخاب رئيس للجمهورية، لا يبدو أنّ الولادة الرئاسية وشيكة. ويؤثّر هذا التأخير في انتخاب رئيس الدولة مباشرةً وجوهرياً على إعادة تكوين السلطة التنفيذية، ويفرمل إجراءات عدّة لا تستطيع اتخاذها حكومة تصريف الأعمال، وأبرزها إجراء التعيينات الإدارية خصوصاً في الفئة الأولى، ومن بينها حاكمية مصرف لبنان، هذا فضلاً عن إعادة سير الحكومة المطلوب منها خطط وإجراءات عدة خصوصاً في الوضع الانهياري الذي يُطاول الليرة اللبنانية وما يستتبع ذلك من انهيارات، ويشمل أيضاً مجمل القطاعات وتحديداً الإدارات والمؤسسات العامة.
وهذا الواقع «المُعطّل» لا يحلّ للمرّة الأولى، بل يشهده لبنان عند مختلف الاستحقاقات الدستورية، خصوصاً عند الانتخابات الرئاسية وتكليف رؤساء حكومات وتأليف حكومات. إنطلاقاً من هذا الواقع القائم أقلّه ما بعد عام 2005، يدعو رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع باستمرار، الى تركيبة جديدة للدولة، إذ «لا إمكانية لاستمرار الدولة اللبنانية في ظلّ تركيبتها الحالية…».
وكرّر جعجع هذه الدعوة أخيراً، في مقابلة تلفزيونية، ليل الأربعاء الفائت، إثر الفشل في انتخاب رئيس في الجلسة الـ12 لمجلس النواب. فما هي هذه التركيبة وكيف يُمكن الوصول إليها؟ لا يُمكن الوصول الى أي حلّ في لبنان إلّا من خلال الحوار والتوافق، ولا يمكن لأحد أن يفرض نظاماً سياسياً أو تركيبة جديدة، من دون نقاش بين اللبنانيين، بحسب «القوات». وتشرح مصادرها، أنّه انطلاقاً من أنّ البلد يعيش أزمات وجودية مستمرّة، وأنّ هذه الأزمة قد تستمرّ الى 50 سنة إضافية، وأنّ أزمة سلاح «حزب الله» قد لا تنتهي قبل 18 سنة أخرى، وأنّه قد تُخلق أزمة جديدة من الطبيعة نفسها بعد سنوات، يجب التوصّل الى حلّ يمكن من خلاله تحييد النزاع السياسي الوجودي عن مصالح الناس، وذلك لصالح جميع اللبنانيين وليس لفئة واحدة منهم، وهذا بالتفكير في تركيبة تحمي مصالح الناس ووجودهم واستمراريتهم وفرص عملهم ونمط عيشهم. هذا الطرح يتطلّب مواكبة وأن يُطرح جدياً، بحسب «القوات»، خصوصاً أن لا حلّ في الأفق لأزمة سلاح «حزب الله» وللتعطيل الحاصل في كلّ استحقاق دستوري.
لكن هذا لا يعني التوقف عن المسعى الى حلّ الأزمة الكبرى، إذ لا يمكن قيام بلد ودولة في ظلّ منطقين وسلاحين، لكن في الانتظار لا يمكن ترك اللبنانيين يهاجرون من دون أي حلّ. هذه التركيبة الجديدة التي تدعو إليها «القوات»، قد تتحقّق عن طريق تعديلات دستورية تمنع التعطيل عند كلّ استحقاق. كذلك قد تكون باللامركزية الموسّعة، إذا كانت هذه اللامركزية تؤمّن الهدف. فالمهم بالنسبة الى «القوات» الوصول الى هدف الفصل بين الاشتباك السياسي الدائم ومصالح الناس الذين يتأثرون بهذا الاشتباك.
العرقلة رئاسياً تعزّز دعوة «القوات» هذه. لكنّها بالتوازي ستستمرّ في المعركة الرئاسية بالهدف نفسه: منع وصول رئيس ممانع. وعلى رغم أنّ «الثنائي الشيعي» والفريق المؤيد لرئيس تيار «المرده» سليمان فرنجية لا يزال متمسّكاً بترشح الأخير، ويبدي ارتياحه للنتيجة التي حقّقها في جلسة الانتخاب الأخيرة (51 صوتاً)، تعتبر «القوات» أنّ صفحة «مرشح المقاومة» انتهت وطُويت، وذلك انطلاقاً من العوامل الآتية:
– مع كلّ «حشد» محور الممانعة لفرنجية المطروح اسمه للرئاسة منذ عام 2004، وبعد 12 جلسة انتخاب لم يتمكّن من تخطّي الـ51 صوتاً، في مقابل تحقيق الوزير الأسبق جهاد أزعور المرشح للمرة الأولى للرئاسة 59 صوتاً.
– فرنجية يمثّل لوناً سياسياً واحداً، فهو «مرشح المقاومة» كما وصّفه رئيس كتلة «الوفاء للمقاومة» النائب محمد رعد، وهذا بعكس ما يطلب الرأي العام اللبناني والمجتمع الدولي، أي رئيس يعكس كلّ الألوان السياسية.
– التقاطع بين «المعارضة السيادية» و»التيار الوطني الحر» ومستقلّين و»تغييريين» يُظهر أنّ الاستعصاء محصور في «الشيعية السياسية».
– فرنجية حصل على 51 صوتاً مقابل 77 نائباً لم ينتخبوه (59 منهم انتخبوا أزعور). وبالتالي لا يُمكن للأقلية أن تفرض توجهها على الغالبية النيابية.
– المنطق الاستعلائي والفوقي لإيصال رئيس لن يمرّ، وبالتالي إنّ «فريق الممانعة» مضطر الى الذهاب الى انتخابات رئاسية على قاعدة التوافق، وإلّا لن تحصل هذه الانتخابات.
– الفريق المؤيد لفرنجية يعطّل الانتخابات عنوةً، من التمسك بمرشح وتطيير نصاب الجلسة الثانية ورفض الدعوة الى جلسة أخرى، الى رفض رئيس مجلس النواب إعادة الفرز في الجلسة الـ12 بعد «ضياع» ورقة.
لذلك، وعلى رغم بعض الثغرات، فإنّ «القوات» متمسّكة بالتقاطع على اسم أزعور، «الذي أثبت صوابيته». وتشير مصادرها الى أنّه قائم ومستمرّ، والعمل جارٍ لتحصينه ورفع منسوب أرقامه. وتعتبر أنّ «الثنائي الشيعي» وكلّ من «فرط» نصاب الجلسة الأخيرة مسؤول عن الفراغ الرئاسي، والمجتمع الدولي مدعو الى فرض عقوبات واضحة على هؤلاء.