بعد 18 عاماً على 26 تموز 2005
في 21 نيسان 1994 راقب سمير جعجع من مقرّه في غدراس آخر غياب للشمس في ذلك النهار الربيعي المفعم بالقلق والتوتر منتظراً اعتقاله. على الطريق إلى وزارة الدفاع كان يسترق النظر من الآلية العسكرية التي كانت تنقله إلى آخر الصور التي سيراها وهو يغادر إلى مجهول ينتظره. كان يحاول أن يحفظ في ذاكرته الشوارع والسيارات وأعمدة الكهرباء والناس والبنايات من دون أن يعرف متى سيراها مرة ثانية. في 26 تموز 2005 أشرقت عليه الشمس وهو في الطريق من وزراة الدفاع إلى مطار بيروت حيث كانت تنتظره بداية جديدة بعدما اعتقد كثيرون أنّه دخل إلى السجن ولن يخرج منه، وأنّه انتهى.
بعد ثورة 14 آذار 2005 بدا واضحاً أنّ أيام رئيس حزب «القوات اللبنانية» سمير جعجع في الإعتقال باتت معدودة، وأنّ العد العكسي لخروجه إلى الحرية قد بدأ. التحوّل الكبير الذي دخل فيه لبنان بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري كان ينبئ بتحوّل كبير أيضاً في قدر جعجع. على رغم أنّه كان لا يزال في السجن إلا أنّه صار وكأنّه استعاد دوره كلاعب أساسي في التحوّلات السياسية الحاصلة. هناك عاد يستقبل زواراً غير عاديين، ويبحث معهم في مصير البلد والإنتخابات النيابية وكأنّه في مقر قيادته. سعد الحريري. ميشال عون. جبران تويني وغيرهم. كان المطلوب تعزيز حضور قوى 14 آذار للفوز في الانتخابات النيابية وتأمين خروج جعجع من السجن عبر إقرار قانون خاص للعفو عنه.
أيام إضافية في السجن
في 18 تموز انعقدت جلسة مجلس النواب التي أقرّ فيها هذا القانون. عملياً كان جعجع قد أصبح خارج الإعتقال. ولكن حسابات العودة إلى الحرية اقتضت بقاءه في وزارة الدفاع حتى 26 تموز. كان المشهد العام في لبنان يشهد انقلاباً كبيراً. عندما سيق جعجع بتلك الآلية العسكرية إلى وزارة الدفاع كان معظم أركان السلطة الجديدة إما يتفرّجون أو يؤيّدون أو يشمتون. في 26 تموز كان استقبال جعجع في مطار بيروت يكشف عن ذلك الإنقلاب من خلال الحضور السياسي الكبير والشحن العاطفي الذي رافق عملية خروجه.
طبيعة التطورات انعكست على وضع جعجع في السجن قبل الإنتخابات وقبل العفو. اذ نُقِل من تحت الأرض إلى غرفة فوق الأرض وكأنّ قرار نقله كان تحضيراً لتوقع قرار خروجه. بعد الانتخابات تقدّم وكلاء الدفاع عنه بطلب وضع جهاز تلفزيون في تلك الغرفة. كان المحامي جورج عدوان قد تابع هذا الأمر. وعندما حصل على جواب إيجابي تمّ تقديم الطلب ووافق عليه مدعي عام التمييز في منتصف حزيران وسلّم مع الموافقة جهاز تلفزيون إلى مديرية المخابرات في وزارة الدفاع. ولكن هذه الموافقة بقيت من دون تنفيذ حتى تاريخ 18 تموز موعد انعقاد جلسة مجلس النواب التي أقرّ فيها قانون العفو.
كان جعجع على علم بموعد تلك الجلسة التي صادف انعقادها موعد زيارة المحامين له في السجن. في الوقت المحدّد لتلك الزيارة دخل عسكريون إلى غرفته ومعهم جهاز التلفزيون وسألوه أين يريد أن يضعه. تركهم يعملون على تجهيزه وانصرف إلى لقاء المحامين في غرفة المواجهة. بعد عودته إلى الغرفة شاهد على التلفزيون نقلاً مباشراً لاحتفالات شعبية مرحّبة بقرار العفو عنه. كانت تلك المرّة الأولى التي يشاهد فيها التلفزيون منذ 21 نيسان 1994. أقفل المشهد على خبر اعتقاله وفتح على خبر نهاية هذا الإعتقال.
كان من المفترض أن يخرج من السجن في ذلك اليوم الإثنين. ولكن ترتيبات الخروج كانت تقتضي تأجيلاً لأيام. الأربعاء وقّع رئيس الجمهورية إميل لحود قانون العفو. الخميس نُشِر في الجريدة الرسمية وأصبح نافذاً. في 2 حزيران اغتيل الصحافي سمير قصير، وفي 21 حزيران اغتيل أمين عام الحزب الشيوعي السابق جورج حاوي، وكانا من أقطاب المواجهة مع نظام الوصاية السوري. هذا الخطر المتمدّد منذ اغتيال الرئيس رفيق الحريري اقتضى أن يبقى جعجع في السجن أياماً إضافية لتنظيم عملية خروجه، تداركاً لاحتمال تعرّضه لعملية اغتيال توقّع حصول مثلها يوم اعتقاله، وتأميناً لحصوله على جواز سفر وفيزا للخروج من لبنان إلى فرنسا لإجراء فحوصات طبية واتصالات، وتأمين مقر آمن في لبنان يمكنه العودة إليه.
خاتم الزواج ومسبحة الصلاة
فجر 26 تموز استعدّ جعجع للمغادرة. كان انتهى من توضيب أغراضه الخاصة التي كانت معه في السجن وأعدّ خطاب الخروج الذي سيُلقيه في مطار بيروت. أخذ من الأمانات ما كان أودعه فيها يوم دخوله في 21 نيسان 1994. المسبحة وخاتم الزواج. كان هناك مدير المخابرات العميد جورج خوري فسلّم عليه. وصل جورج عدوان إلى الوزارة لاصطحابه بسيارة تابعة لمديرية المخابرات. ألقى النظرة الأخيرة على المكان وخرج من الباب الذي دخل منه قبل 4114 يوماً مستعيداً ما كان قاله له والده بعد اعتقاله «ما في باب حبس تسكّر وما عاد فتح».
استعاد على الطريق مشاهد كانت غابت عنه منذ ذلك التاريخ إلا مرّات قليلة خلال نقله إلى قصر العدل لمتابعة جلسات المحاكمة. كان المشهد كافياً لنقل صورة التغيير الكبير الذي حصل في لبنان. هذا التغيير بدا واضحاً من خلال الإستقبال المنظّم للقاء مع جعجع الذي تحدّث في خطابه الأول عن سقوط السجن الكبير الذي أدّى إلى سقوط السجن الصغير.
حفرت تجربة السجن عميقاً في شخصية جعجع ولكنّها لم تأسره. كانت محطة من محطات سيرته وحياته. قَلَبَ الصفحة ومضى إلى قدر جديد ومواجهة جديدة. على رغم كل ما تعرّض له من أذى وتجريح واتهامات، أعلن بعد خروجه أنّه ترك هذه التجربة وراءه، وأنّه بالنسبة إليه «هذا ملف وتسكّر» وهو يبدأ مرحلة جديدة في حياته، وأنّه قفز فوق كل الإساءات التي تعرّض لها وكلّ الذين ارتكبوها وساهموا فيها.
بين جعجع والسيِّد
من مفارقات القدر أنه في 30 آب 2005، بعد 35 يوماً على خروج جعجع، كان الضباط الأربعة، رموز عهد الوصاية السورية والنظام الأمني اللبناني السوري، يُعتَقلون ويَدخلون إلى السجن بقرار ضمن التحقيق الدولي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري. مدير عام الأمن العام ونائب مدير المخابرات سابقاً اللواء جميل السيِّد، والعميد ريمون عازار مدير المخابرات، والعميد مصطفى حمدان قائد الحرس الجمهوري، واللواء علي الحاج مدير عام قوى الأمن الداخلي. ولكن أكثر الذين كانوا منخرطين في الحرب الشاملة ضد جعجع، كان اللواء السيِّد. على رغم اختلاف الظروف التي رافقت توقيفهم ثم إطلاق سراحهم، وعلى رغم مرور ثلاثين عاماً تقريباً على اعتقال جعجع، و18 عاماً على خروجه من السجن لا يزال السيِّد يعتبر نفسه في قلب هذه المعركة المستمرّة. وإن كان جعجع تجاوز تلك المرحلة فإنّ السيِّد لم يتجاوزها.
في 22 تموز الفائت كتب السيِّد على تويتر:
«جعجع… ربّما يجب الاعتراف له بأنه أحسَنَ إختيار معظم وزرائه ونوّابه وهُم في غالبيتهم لم يكونوا يوماً أعضاء في القوات اللبنانية، ذلك أنه أراد من خلال هذا الثوب الجديد وغير القواتي أن يمحو من ذاكرة الناس الصورة الميليشوية للقوّات ليقيم محلّها صورة سياسية في الدولة تتحلى بالسمعة والكفاءة وغير ملوّثة بالدم والخوّات والمرافئ…».
وجاء أيضاً «للحقيقة، فقد نجح جعجع بإلباس القوّات هذا الثوب غيْر المُلطَّخ، لا سيما في بعض الوسط المسيحي، وفي الجيل الجديد منه الذي ليس لديه من ذاكرة الحرب سوى ما يقوله له زعماؤه او ما يسمعه في الإعلام اللبناني المنحرف بمعظمه عن الحقيقة لصالح هذه السياسة او تلك ولصالح هذا الفاسد والمتموّل او ذاك…
ويبقى السؤال، بمقابل نجاحه في تغيير ثوبه، هل نجح جعجع في تغيير جوهره وفكره؟ وهل استخلص العبرة من الماضي؟! وهل قرّر ان لا يكررّ المراهنات القاتلة التي قد تجرّ البلد مجدداً الى الفتنة والحرب؟ وهل أزال من فكره أحلام التقسيم أو الفدرالية التي لا حياة لها في لبنان؟ وهل استغنى فعلاً عن التنظيم العسكري والامني كوسيلة من وسائله في السياسة؟».
أضاف: «بصراحة، ومن خلال كل تصريحاته وخطاباته الى الامس القريب، ولأنني اعرفه عن ظهْر قلب دونما حاجة الى تفكير وتحليل، فإنني أرى ثوب جعجع قد تغيّر وبقيَ الجسد القديم والعقل القديم على حاله… حمى الله لبنان…».
لا يعكس كلام السيِّد حقيقة جعجع بقدر ما يعكس حقيقته هو. بهذا المعنى إنّه يعطي مصداقية لوجهة نظر جعجع في الظلم الذي تعرّض له. فمن لم يتغيّر في الواقع هو السيِّد. باعتبار أنّه على رغم خروجه من الوظيفة العامة لا يزال يتحدّث بخلفية الأحكام التي أطلقها على جعجع و»القوات اللبنانية» عندما كان في تلك الوظيفة يتولى مسؤولية تنفيذ رغبات عهد الوصاية والإشراف على النظام الأمني اللبناني السوري الذي كان وراء الحملة على جعجع و»القوات».
فإذا كان اليوم يعبِّر بهذه الطريقة عن خلفياته الأمنية والسياسية، وهو خارج السلطة، فكيف كان الوضع إذاً عندما كان يحمل هذه الخلفيات ويطبّقها وهو في السلطة؟ وإذا كان يعتبر أنّه يعرف جعجع جيداً و»يحفظه عن ظهر قلب دونما حاجة الى تفكير وتحليل» فمِن الأجدى أن يعيد النظر بنظريته إلّا إذا كان يأبى أن يغيِّر ما في نفسه، وإلّا إذا كان يعيش عقدة جعجع.
من الطبيعي أنّ جعجع لم يتغيّر في ما خصّ انخراطه في مواجهة مشاريع السيطرة على لبنان وتغيير هويته، سواء أتت من النظام السوري سابقاً، أو من «حزب الله»، أو من نظام الممانعة الذي لا يتردّد السيِّد في إعلان انتمائه إليه، على رغم تمايزه عنه في الكثير من الأمور التطبيقية. هذه المواجهة لم يتردّد في خوضها على رغم معرفته بكلفتها في بداية التسعينات، ولا يتوانى عن الإلتزام بها مع معرفته بكلفتها أيضاً في هذه المرحلة التي يبدو أن القرار فيها هو عدم إعادة لبنان إلى السجن الكبير.