في الدقيقة العاشرة والثانية الـ 13من مقابلته مع الإعلامي وليد عبود على شاشة تلفزيون لبنان، أول من أمس، وجّه رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع إهانة لم يسبق أن وجّهها سياسيّ ماروني إلى بطريرك الموارنة حين وصفه بـ«طبّاخ بحص»، إذ وصف اجتماعات بكركي التي يرأسها البطريرك بشارة الراعي ويشرف على اللجنة المنبثقة عنها ويتابعها بعناية بـ«طبخة بحص»، مؤكداً أنه «غير مقتنع بهذه اللقاءات».مع ذلك، فإن المطالعة التي قدّمها جعجع في الدقائق الخمس الأولى هي الأخطر لجهة الدور والوظيفة اللذين يريدهما للمسيحيين. وهو قال حرفياً: «ثمة حملة مبرمجة منذ ثلاثة أو أربعة أشهر (منذ تلقفت بكركي مبدأ وجود تحديات طارئة تواجه المجتمع اللبناني عموماً والمسيحي خصوصاً، وبدأت اجتماعات العمل) للإيحاء بأن ثمة مشكلة مسيحية. لكن الحقيقة أنه خلال السنوات الأربعين الماضية (منذ عام 1984) كان قسم من المسيحيّين ضائعين، ما أوصلنا إلى ما وصلنا إليه. لكن، منذ بداية عام 2022 بدأ الوضع يجلس».
رئيس أكبر كتلة مسيحية يقول إنه منذ بداية عام 2022 (في غياب رئيس للجمهورية وغياب مشاركة مسيحية وازنة في الحكومة وفي ظل انهيار إداري واقتصادي شامل) بدأ «الوضع المسيحي يجلس». وفي ظل دهشة عبود من هذه «الدرر»، استدرك «الحكيم»: «لم يجلس كلياً… لكن بدأ يجلس يجلس». وأكمل جعجع فكرته: «… بدليل الثقل الذي يتمتع به المسيحيون اليوم في البلد. ويمكنك أن تسأل من تريد، ومراكز الدراسات العربية والأجنبية، حول الصراع في لبنان بين من ومن، وسيجيبونك بأنه بين المسيحيين من جهة، والثنائي من جهة أخرى. وهو ما يبيّن لك أين أصبح موقع المسيحيين».
وعليه، فإن وضع المسيحيين بألف خير، لأنهم حلّوا، وفق نظرية جعجع، محل السنّة والنائب السابق وليد جنبلاط، وباتوا رأس الحربة في مواجهة الثنائي الشيعي. لا يهمّ التمثيل السياسي أو الإداري أو التحديات الاقتصادية والاجتماعية، وحتى تلك الديموغرافية التي تحدثت عنها بكركي في مسودتها الأخيرة. ولا يهم انتقال الرأسمال التجاري والاقتصادي الذي احتكره المسيحيون لسنوات طويلة إلى جزر احتكارية جديدة، ولا يهمّ ما يقلق الرهبانيات من عجز الأهالي عن تأمين الأقساط لمدارس أولادهم أو إذلال المواطنين للحصول على نزر قليل من ودائعهم، ولا تهمّ الهجرة والنزوح السوري وما يحاضر به المطران بولس صياح عن «تفريغ الإدارة على جميع المستويات من المسيحيين والاستئثار بالحكم»، ولا ما أورده المطران أنطوان أبو نجم في مسودة وثيقة بكركي عن المخاطر الوجودية… المهم أن مراكز الدراسات العربية والأجنبية تقول لجعجع إن المسيحيين هم من يواجهون الشيعة في لبنان اليوم. هذا هو الدور الرائد للمسيحيين والوظيفة، كما يريدها جعجع. بعد فشل الموجة التكفيرية في «جرف الشيعة»، رغم كل التعبئة والتمويل، يريد جعجع للمسيحيين أن يفعلوا ما عجز عنه هؤلاء، وفي وقت تنكفئ فيه السعودية نحو التفاهم مع إيران وسوريا، وترسل الإمارات طائرة خاصة لتقلّ مسؤولاً أمنياً (لا سياسياً) في حزب الله. فهل هناك من فخر وإنجاز ومشروع يبعث على الاستقرار والازدهار الذي ينشده المسيحيون أكثر من هذا؟
لم يقاطع عبود قائد القوات، لافتاً إيّاه إلى أنه يخلط بين مصلحته الخاصة في صراع كهذا يدرّ عليه أرباحاً مالية جمّة وبين مصلحة المسيحيين. لكنه حاول مراراً أن يقدم له سلّماً لينزل، إلا أن جعجع أصرّ على الصعود أكثر: «لا فراغ سياسياً على الصعيد الماروني، يمكن أن تسأل من تشاء في لبنان وخارجه، شرقاً وغرباً، الصراع بين من ومن في لبنان، وسيجيبك كما أسلفت. لو كان ثمة فراغ لما كانوا (المسيحيون) مبينين في المعادلة، ومبينين بأنهم الطرف الآخر في البلد». بالتالي، لا حاجة إلى إضاعة الوقت في تحديد المخاطر والتحديات والحلول. فالنجاح، بالنسبة إلى جعجع هو أن «نكون مبيّنين». فضيحة كان يمكن أن تمرّ باعتبارها زلّة عرضية، لو لم تبادر الإدارة الإعلامية في القوات إلى تفريغها فوراً ونشرها على منصة X.
العمى الاستراتيجي لم يتوقّف هنا. فحين يسأل عبود جعجع عن المكاسب السياسية التي يمكن أن يحصل عليها حزب الله مقابل الانسحاب إلى ما قبل الليطاني، أجاب بأن الغرب «يمكن أن يعطيه مما لديه، لكن ليس من جيبة غيرهم». وتابع: «جيبة غيرهم يعني نحن، ولا يمكنهم مدّ يدهم عليها»، مضيفاً: «القوى المحلية هي من تحدّد مسار الأمور. لا يمكن أميركا أن تأتي بجيشها لتقاتلنا وتنتزع منا مكاسب لتقديمها للحزب». ورغم خلطه الحابل بالنابل، فإن تفكيك عباراته الأخيرة يفيد بأنه مقتنع بأن القوى المحلية هي من تحدد مسار الأمور، ولا يمكن التعويل بالتالي على الجيش الأميركي أو الإسرائيلي أو غيرهما لتعديل التوازنات السياسية الداخلية. كما أنه مقتنع بأن ما في جيبه اليوم هو له فعلاً، وليس للأميركيين الذين لا يشاركونه الرأي بطبيعة الحال.
ختاماً، قال جعجع الكثير في أقل من دقيقة حين أشار إلى أن السعودية في عهد وليّ العهد محمد بن سلمان ترفض أيّ «تدخل بأيّ شكل في الدول الأخرى، ولم تعد تريد دعم أي فريق أو مساعدته للوصول إلى رئاسة الجمهورية أو غيره، وهي تنتظر انتخاب رئيس لتقرر بناءً على ممارساته دعم لبنان أو عدمه». وفي ما بدا ترداداً لموقف مطلوب منه، أضاف جعجع: «القول إن القوات حليفة السعودية كثير (مبالغ فيه). يمكن القول إن القوات صديقة السعودية، نحن أصدقاء لأنهم لم يعودوا يتدخلون ويتخذون حلفاء كما كان يحصل دائماً في الشرق الأوسط». وإذا كان الحديث بهذا الشأن يفترض أن ينتهي هنا، فإن عبود استرسل ليحرج جعجع الذي لم يعد يجد المفردات المناسبة للإجابة حين سأله عما إذا كان هذا التغيير السعودي قد أضعف القوات، فأجاب مربكاً: «طبعاً، تقريباً، مش تقريباً، قطع أي دعم بمعنى الدعم ممكن. لكن لأ. نحن قوة محلية موجودة نفتخر بصداقة المملكة، وهكذا يجب أن تكون العلاقات وليس أكثر من هكذا».