لا بُدّ من توطئةٍ لهذا الهامش، نتوجه فيها إلى غبطة البطريرك مار بشارة الراعي، بعد موقفه الآتي إلى لبنان في عزّ أزمة المخاوف من الدّعوة إلى «مجلس تأسيسي» وشبح المثالثة»، وهذه كلّها «هدمٌ» لاتفّاق الطائف، ويا ليته لم يذهب بعيداً في اعتبار التمديد لمجلس النواب «غير شرعي»، ويا ليته اقتدى بغبطة مار نصرالله بطرس صفير، الذي اعتبر في حديث لـ»وكالة الصحافة الفرنسيّة: «اتفاق الطائف يمثّل أهون الشّرور، في الظروف الرّاهنة» [النهار 25 تشرين الأول 1989].
للمرّة الثانية بدا لبنان بالأمس على حافّة 4 تشرين الثاني 1989، عندما أصدر «العماد ميشال عون» القرار 420 القاضي بحلّ مجلس النواب، بالأمس نجا لبنان بفعل حكمة الدكتور سمير جعجع من فخٍّ مماثل لما عشناه في العامين 1989 و1990، ولكنّ فخّ عدم التمديد لمجلس النواب بالأمس كان ليقضي على كلّ ما تمّ بناؤه منذ اتفاق الطائف وحتى اليوم، بل أكثر من ذلك، بالأمس سمعنا مقاربة للوزير جبران باسيل ذكرنا فيها بموقف القوات اللبنانية في الموافقة على اتفاق الطائف ـ عكس رغبة عون تياره في ذلك الوقت ـ وللمناسبة، لولا موافقة القوات على اتفاق الطائف وانخراطها في بناء الجمهورية الثانية آنذاك، ربما كنّا اليوم غارقين في حروب عبثيّة لا تنتهي!!
ولا بُدّ هنا من أن نُثّمن خطوة حزب القوات اللبنانية ونوّابه، وحكمة «الحكيم» في جعل التمديد لمجلس النواب ميثاقيّاً، ولولا هذا التمديد، لكُنّا صباح اليوم نسمع أصواتاً تعلو مطالبة بعقد اجتماع تأسيسي جديد للبنان، أو تكريساً للمثالثة يأخذ طريقه ليصبح دستورياً في وقت ما زال فيه «أمر واقع» غير مُعلن لا أكثر!!
بالأمس كان لبنان في مواجهة واقعٍ وممارسة سياسيّة ـ إن صحّت التسمية ـ لم تتغير على رغم مرور أكثر من ربع قرن!! في 27 تشرين الأول عقد رئيس «نصف حكومة» العسكرية العماد ميشال عون مؤتمراً صحافيّاً برّر فيه موقفه من»رفض اتفاق الطائف» فقال: «الخوف لا يُبرّر سقوط الوطن»، هذه المعادلة تُشبه تماماً معادلة»عدم التمديد يليه انتخابات لا الفراغ»!!
بالأمس أحبطت كتلة القوات اللبنانيّة النيابيّة أكبر «مناورة» للقضاء على الطائف وفرض فراغٍ على مستوى جميع المؤسسات الدستورية، ووحده الله يعلم أي مغامرة كانت ستلي عدم التمديد للمجلس النيابي، ربما مغامرة تدمير للحكومة القائمة، للبدء برهان خاسر جديد علّه يقود الطامحين منذ ربع قرن مجدداً إلى «كرسي الرئاسة»!!
في 13 أيلول العام 1990 قال العماد عون: «أنا أمثّل الحلّ»، وكلّفت مغامرة رفض اتفاق الطائف المسيحيين عام 1990 حرباً إلغائيّة دمّرت مناطقهم، وتركتها «نهبة» لدبّابات الاحتلال السوري الذي أطبق يده على كلّ لبنان، ولولا «حكمة» و»عقلانيّة» سمير جعجع في ذلك الوقت، لكانت تلك الأحداث نهاية الوجود المسيحي في لبنان، وربما علينا التذكير هنا بما قاله غبطة الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير بُعيد جولته في منطقة القليعات، حيث توقّفت الحرب تحت عنوان «توازن الرّعب»: «ليعلم الذين يخوضون هذه الحرب أنهم مسؤولون عن الوجود المسيحي الذي له ألف وخمسماية سنة»، أو التذكير بما قاله السفير البابوي «بابلو بوانتي» في مؤتمر صحافي عقده في مقرّ السفارة البابويّة في حريصا في 6 تموز 1990: «لاحظت من خلال اتصالاتي مع شخصيات مسلمة أنّ المسلمين يتحسّسون تماماً مشكلة هجرة المسيحيين، وبعض الأحيان يتحسسون ذلك أكثر من بعض المسيحيين»…
يُشبه موقف الدكتور سمير جعجع خلال اليومين وما صدر عنه خلال اليومين الماضيين موقفه في 2 نيسان 1990 عندما اعتبر في حديثٍ لإذاعة صوت الشعب: «انّ الحلّ في لبنان يكون بالاعتراف بالرئيس (الياس) الهراوي رئيساً للجمهورية وباعتبار اتفاق الطائف مدخلاً للحلّ مع ما للقوات اللبنانيّة من ملاحظات عليه، وطلب لبعض التعديلات».
بالأمس ألزمني موقف الدكتور سمير جعجع الذي أنقذ الطائف ـ للمرّة الثالثة للمفارقة ـ أن أستعيد «الشذرات» التي تناول فيها حركة التاريخ، بل ربما ألزمني أن أنخرط في استعادة جديّة لفلسفة التاريخ وحركته وهل يصعد، أو ينزل، أو يدور؟ وهذه «إشكاليّة» ليس مكانها ههنا، بالأمس نجا لبنان من ذهابه نحو انحلال الدولة والكيان والدخول في «أعاصير» المنطقة الدموية.