تضعف الذاكرة، القصيرة أصلاً، فتنسى موقفه من القانون الأرثوذكسي والتمديد للمجلس النيابي. تضعف أكثر فتنسى شعاره: «فليحكم الإخوان». يطوي النسيان الانتفاضات والمحاكمات والادانات والخروج من السجن بعفو رئاسي. يصيب الخرف الذاكرة الى حد يصبح معه رئيس حزب القوات الزعيم المسيحي الثاني ومرشحاً جدياً للرئاسة، ورجل السعودية الأول في لبنان
لا أحد يستمتع بإجازته الصيفية كما تفعل القوات اللبنانية منذ عدة أشهر. في وقت يقاتل فيه حزب الله في سوريا، وينشغل التيار الوطني الحر بانتخاباته الداخلية والتعيينات الأمنية، ويحاول تيار المستقبل لملمة تداعيات نفاياته، كانت مهرجانات الأرز الشغل الشاغل لرئيس حزب القوات سمير جعجع طوال الأسبوعين الماضيين. يتابع ترتيبات الحفل الاحتفالي، ويساعد النائبة ستريدا جعجع على اختيار فستان السهرة ويطمئن إلى استكمال إليسا «بروفات» الحفلة.
لا تقتصر الإجازة على رئيس الحزب، فالحزب كله يستريح منذ أشهر من التصعيد الدائم والتوتر و»البحث عن مشكل»، لتراوح الأنشطة بين دورات رياضية مناطقية صغيرة وخلوات تنظيمية لبعض القطاعات وندوات توعوية ضد المخدرات واحتفالات مركزية لتوزيع البطاقات الحزبية. أما الأهم، فهو راحة البال: رئيس حزب القوات يغفو فوق الـ»شيز لونغ» في حديقة قصر معراب، مطمئناً إلى استقراره المالي والسياسي والتنظيمي بعد مرحلة عاصفة.
مالياً، يقول وزير سابق على علاقة وثيقة بأمراء أساسيين في التركيبة السعودية إن الرياض اقتطعت، قبل نحو عام، خمسمئة ألف دولار من المخصّصات الشهرية للقوات لمصلحة حركة الرئيس ميشال سليمان، ومبلغاً صغيراً آخر لدعم حزب الكتائب بعيد زيارة النائب سامي الجميل للمملكة. لا يقدّم الوزير السابق أي مستندات تثبت كلامه، لكنه يؤكّد أن الأمر الذي أزعج القوات لم يغضبها كثيراً. فالمخصّصات الشهرية التي تحددها المصادر نفسها بخمسة ملايين دولار تغطي مصاريف معراب وتفيض على الحسابات الخاصة، إلا أن الأمور ازدادت سوءاً قبل بضعة أشهر، مع إعادة التركيبة السعودية الجديدة جدولة مصاريفها، وتوقف «قوافل الجمال» المحملة بالمال عن الوصول إلى شركات المملكة الإعلامية والسياسية العاملة في لبنان، لانشغالها في اليمن والبحرين وغيرهما، لكن زيارة جعجع الأخيرة للسعودية أسهمت، بحسب مصدر مطلع، في عودة الريالات إلى مجاريها المصرفية، الأمر الذي أراح رئيس القوات وطمأنه، أكثر بكثير من رمزية استقبال الملك السعودي له. فالتمويل بالنسبة الى جعجع، بحسب أصدقائه السابقين، يتقدم كل شيء، وهو أساس التنظيم الحزبي والحضور الإعلامي والتوسع السياسي.
انتهت الكوابيس المرعبة التي عاشتها معراب طوال أيام التقارب الحريري
العونيّ
سياسياً، انتهت الكوابيس المرعبة التي عاشتها معراب طوال أيام التقارب الحريري ـــــ العونيّ والليالي الملاح في منزلي الحريري في وسط بيروت وباريس، وخصوصاً أن تقارباً كهذا يلغي مبرر وجود القوات كحزب سياسي مهمته الوحيدة محاصرة عون ومزاحمته. لا يمكن تخيل سعادة أكبر من سعادة جعجع لدى سماعه عون يصعّد مجدداً ضد تيار المستقبل. قبل ذلك، خرج جعجع فائزاً من التقارب العونيّ ــــ الحريريّ حين طلب الحريري من عون التفاهم مع جعجع حول الاستحقاق الرئاسي، جاعلاً منه لاعباً أساسياً في الاستحقاق الرئاسي. وسياسياً أيضاً، انتزع جعجع مجاناً صك براءة عونيا عن كل جرائمه السياسية، فغفرت ذنوبه المتعلقة بالقانون الأرثوذكسي والتمديد للمجلس النيابي وكل الملفات الأخرى. وها هو يتنعم اليوم بتحييده من كل الاتهامات المتبادلة بين الأفرقاء السياسيين، فيما ينأى بنفسه عن السجالات المحتدمة حول الملفات الحياتية. فهو زعيم ورئيس حزب ومسؤول سياسي، لكن لا علاقة له بملفات الكهرباء والنفايات وكل السمسرات الأخرى.
أما تنظيمياً، فيواصل جعجع بناء تنظيمه بهدوء ودقة متناهيين، متفحصاً كل محازب على مختلف المستويات (الأسرية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية) قبل تسليمه أي مسؤولية. وتؤكّد مصادر أن طلبات الانتساب إلى القوات لم تقبل جميعها، كما حصل في أحزاب أخرى، ليدخل كل من هبّ ودبّ. بدل توزيع البطاقات الحزبية على عجل ليدخل الحزب مرحلة طويلة من المراوحة والإحباط الحزبي، انكبت معراب على إعداد نظام داخلي لا يوجد داخل الحزب من يعترض عليه، وانتظرت عشر سنوات قبل أن تبدأ أخيراً توزيع البطاقات الحزبية. وهي جعلت من الانتساب الحزبي انتماء لمؤسسة اجتماعية – خدماتية – سياسية أكثر منه انتماء سياسياً. وخلافاً لكل ما يشاع، يبدو واضحاً في بعبدا والمتن وكسروان، كما في البترون والكورة وحتى بشري، أن «الانجاز المعرابيّ» ليس حزباً جماهيرياً كبيراً، إنما تنظيم متماسك صغير على علاقة وطيدة بفعاليات منطقته من جهة، وبالناخبين في مختلف المناطق والقطاعات من جهة أخرى. وفي هذا التنظيم الصغير مواقع تكفي الجميع، ولا شيء اسمه مراكز قوى داخلية أو تيارات متصارعة. أما النواب، فهم مجرد ممثلين سياسيين يخضع كل منهم في منطقته لمسؤول المنطقة الحزبي. والنتيجة: فيما يسعى النائب سامي الجميل للإمساك جدياً بحزبه، وينشغل التيار الوطني الحر بتناقضاته، لا يحمل جعجع همّ أيّ مشاكل حزبية، مطمئناً إلى إمساكه القوات «من البابوج إلى الطربوش». ولا شك أن خصوم جعجع اسهموا في تعزيز اطمئنانه: أولاً، حين تجاهلوا تجمعات القواتيين السابقين المتعددة وبخلوا في دعمها. وثانياً، حين عجزوا عن تقديم بديل للناخبين يتمثل بمؤسسة حزبية ديمقراطية حقيقية توحي بقدرتها على الاستمرار لأعوام طويلة مقبلة. وثالثاً، حين أفسحوا له مجال التوسع الاستثنائي في عدة أقضية شمالية باتت تصدر المحازبين المدينين بولاء مطلق لجعجع إلى الأشرفية وجبل لبنان. ورابعاً، حين تفرجوا على الوزارات تغدق على معراب الخدمات، بما في ذلك وزارات العونيين.
من دون جهد يذكر، تحول جعجع إلى مرشح نصف اللبنانيين إلى رئاسة الجمهورية. ومن دون جهد يذكر تحول إلى الزعيم الثاني للمسيحيين بعد ميشال عون، بعدما ذهب العونيون بعيداً في الكلام عن «الثنائية المسيحية»، وأبعد في طلب استطلاع يحدد أيهما الزعيم الأول للمسيحيين، مسوّقين على نحو غير مباشر أن حجم جعجع يمكن أن يوازي حجم عون. ومن دون جهد يذكر تحول جعجع إلى رجل السعودية الأول في لبنان. ومن دون جهد يذكر بات هو الفريق الوحيد غير المشارك في السلطة وتقاسم مغانم نفاياتها. هكذا ستطول الإجازة، سواء في معراب أو الأرز، في انتظار أن يقدم له خصومه والحلفاء مزيداً من الهدايا. يشبه الحكيم الخليفة العباسي هارون الرشيد الذي خاطب السحابة قائلاً: «أمطري حيثُ شئتِ فإنَّ خراجكِ عائدٌ إليّ»!