IMLebanon

21 نيسان 1994… ثلاثون عاماً والجلجلة مستمرة

 

21 نيسان 2024… نتذكّر ونتعلّم

 

غداً، عند الصباح، ساعة يبزغ الفجر معلناً حلول يوم الحادي والعشرين من نيسان سيتذكر كثيرون ذات نيسان، ذاك النيسان، الذي حلّ قبل ثلاثين عاماً. وألف عام – لا مجرد ثلاثين – في عينك يا رب كأمسٍ الذي عبر. في ذاك النهار، إقتيد سمير جعجع إلى ما أرادوها مقصلة له. وصار ما صار. فبركات فبركات يعترف بها اليوم القاصي والداني. وبعض من مارسوا «الجلد» ما زالوا – بعد ثورتين كبيرتين – متمترسين في سددٍ متقدمة يخططون لفبركات جديدة. لكن، لأن سكوت أهل الحقّ عن الباطل يجعل أهل الباطل يتوهمون أنهم على حقّ سنستمرّ في تذكيرهم بما اقترفوه وما زالوا. في 21 نيسان عام 1994 ألقوا القبض على سمير جعجع واليوم، في 21 نيسان 2024، كل البلاد والعباد في قبضة المجهول. كانت اياماً صعبة، صعبة جداً بالنسبة إلى جماعة، إلى رفاق، واليوم الكلّ الكلّ في أيامٍ صعاب. ولأن العظمة في الحياة ليست في التعثر لكن في النهوض بعد كل مرة نتعثر فيها، سنرجع ثلاثين عاماً إلى الوراء لنتذكر ونتعلم إذا أردنا بناء وطن إلى الأمام.

هو كان، في تلك اللحظة، في غدراس وهو اليوم في معراب. وجنائن البلدتين تمتلئ في كل نيسان بالورود الصفر وبالزعتر البري وأشجار الشربين والسنديان والملول وتطغى في أجوائهما زقزقات العصافير التي تبث شحنات إيجابية في النفوس وفي العقول. هناك في غدراس كانت «كابيلا» للصلاة وهنا في معراب توجد كنيسة، باسم سانت ريتا، للصلاة. وهنا وهناك تتصدر عبارة ملازمة: ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه.

 

كل رفاق الحكيم كانوا في تلك اللحظة في ذهول. إقتادوه هو الى السجن واقتادوا معه الكثيرين. بيار جبور، قائد الصدم، كان أحدهم ويقول: لم يعد هناك إحساس بالوقت الحقيقي في السجن، بل مجرد إنتظار بين جلسات التعذيب والإستجواب. كان عدم اليقين – أي عدم المعرفة – جزءاً من المخطط العام للتعذيب. كأن شيئاً كبيراً يحدث. وكان آمر السجن عطيه حاضراً. ناداني: يا جبور قمّ. قادني من قميصي عبر الممرات التي أصبحت بيتي الى باب آخر في القبو. إعتقدته سيحررني. أزال العصابة عن عيني فرأيت الحكيم مقيّد اليدين ومعصوب العينين لكنه كان يقف بثبات. سمعت من حولي يبتهجون وكأنهم إنتصروا في معركة شرسة ضدّ ألد أعدائهم. سمعت من يقول لي: أنظر الى رئيسك سمير جعجع. أنظر إليه الآن. كان صوت عطيه ساخراً ضاحكاً مبتهجاً. همستُ في حينه للحكيم: يا جبل ما يهزك ريح».

 

ما حصل مع بيار جبور تكرر مع الرفاق. مع فادي الشاماتي وآخرين. هم تقصدوا «باسم الدولة» إذلال الجماعة. غرق المسيحيون في حزنٍ عميق. حلّوا القوات اللبنانية ومعها ألغوا الأمل. افتقدت الجماعة الى الأمن والطمأنينة وتوقف المستقبل. حاولت الدولة في حينه تحييد بكركي لكن مواقف البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير فاجأتهم. ومنعت نشرات الأخبار. أرادوا «تبكيل» السيطرة على جماعة لكنهم لم يدروا في حينها أن الحقّ بقي سيفاً مصلتاً على الظالمين.

 

تركيبة وتعذيب

 

تتذكرون إسم جرجس توفيق الخوري. هو كان الشماعة التي استخدموها وفشلوا. جرجس أوقف قبل 21 نيسان، في الخامس عشر من آذار. هو اليوم موجود في كندا. فهل نجحوا في تسجيل إفادة باسمه تقول: سمير جعجع فجّر كنيسة؟ هل من يُصدق ان سمير فريد جعجع يُفجّر كنيسة؟ في اتصال مع «نداء الوطن» تكلم مجدداً جرجس الخوري: «لم أقل كلمة عن جعجع. هم ألّفوا قصّة وبنوا عليها. قبلها أوقفوا ثلاثة أشخاص لم نعرف عنهم شيئاً لتاريخ اليوم بينهم المصري رضا مرسي. ويقول جرجس: «أنا من أولاد الكنيسة «رسل الأنجيل». كنت في الرهبنة المارونية وكنت أنزل من كنيسة مار سركيس وباخوس الى سيدة النجاة. ووجدوا بي الثوب الذي يفصلون ملفّهم عليه. كان همهم فبركة ملف من خلالي. لكني كنت واضحاً دائما ولم أقل شيئاً مما فبركوه. كانوا يجعلوننا جميعاً نوقع على إفادات معصوبي العيون. ويوم وقفت في المحكمة قلت بصوتٍ عالٍ: لم أقل ما كتبتموه. طلبتُ منهم الإتيان بالتسجيلات التي قالوا إنني اعترفت بها بما كتب فلم يفعلوا. أتذكر أنهم سألوني عن سمير جعجع فقلت لهم أعرفه كقائد للقوات اللبنانية كما اعرف ميشال عون العوني وأمين الجميل الكتائبي. سألوني: تحبه؟ قلت لهم: كثيرون يحبون القوات كعقيدة. سألوني: قابلته؟ أجبت: لا. هل تعرف فؤاد مالك؟ سألوني فأجبت: لا. ركزوا على معرفتي بمبنى الأركان الذي لم ازره يوماً بل قصدت مرة أحد أقاربي الذي يعمل في مبنى مجاور. واقتادوني ليلاً الى هناك وصوروني لكنهم لم يعرضوا ما فعلوه. من حققوا معي من مخابرات الجيش أصبحوا برتبة ملازم. كوفئوا. ويوم وقفت في المحكمة قلت: كل ما كُتب مفبرك. ظلموا سمير جعجع وظلموني معه. ولم أره يوماً إلا في جلسات المحاكمة ويوم 16 نيسان، قبل إطلاق سراحنا، يوم تشاركنا في قداس أقامه لنا الأب إيلي نصر. تعذبت كثيراً. المحقق ح. خ. خلع أضراسي أثناء التحقيق بواسطة مفك وسحب أظافري. أوهموا العالم بما لم أقله. وكل ما صاغوه من تفاصيل كان سبق ونُشر قبل توقيفي في جريدة الشراع. لفقوا سيناريو ووضعوا اسمي عليه. لكن شهادتي أمام المحكمة أكدت براءة جعجع. وحق القربان المقدس لم أكن أملك أي من المعلومات التي فبركوها».

 

لم تحصل أي مواجهة أثناء التحقيق بين سمير جعجع وجرجس الخوري. وكان يحضر جلسات التحقيق مع جرجس جميل السيد وميشال الرحباني وجوزف فريحة: «برحمة أهلي لم أقل شيئاً مما كتب».

 

أحداث وتفاصيل كثيرة حدثت لم ينسها جرجس الخوري في غربته. وهو لا ولن ينسى إسم القاضي منيف عويدات (مدعي عام التمييز آنذاك).

 

سمير جعجع لم يتغير. ولو عادت العقارب الى الوراء سيعود «الحكيم» ويختار الزنزانة: سنة، سنتان، خمس، عشر، عشرون، أكثر… لا يهم… الأهم أنه لن يقبل بالرضوخ. سمير جعجع، إبن فريد جعجع، لا يقبل، منذ ولد، الرضوخ. فهو يوم حمل البندقية، كما الكثيرين، اختار المواجهة. ومن يحمل البندقية وينزل الى الجبهة للدفاع عن الأرض والعرض والبقاء لا يبالي إذا عاد حياً أو ميتاً شهيداً. لا خيارات «نص نص» عند هذا الرجل وهو «يثق تماماً أنه لا يمكن للباطل ان يفرض ايقاعه ولا بد للحقّ ان يعود ولو بعد حين وإذا كان للباطل جولة فإن للخير كل الجولات، والحقّ، وإن تأخر، سيعود ويظهر».

 

كثيرون سألناهم عن الملف الذي اعتبروا أنهم أنجزوه في 21 نيسان عام 1994 فأعلنوا ولو متأخرين أن ملف الحكيم فبرك: محسن دلول (وزير الدفاع آنذاك) قال في حديث مع «نداء الوطن»: عرفت منذ البداية أنه بريء من قصة الكنيسة. وقال لي ميشال رحباني أنه ضرب جريس الخوري كفين كي لا يعترف بعكس ما كُتب له لكنه أصرّ في كل حال، تأكدنا لاحقاً أن كل ما قاله كذب. وإذا سألتِ اليوم فأقول لك: هو بريء. لكن، ما حصل خدمه. السجن أعاد تكوينه من جديد. السجون تصنع رجالاً. أصبح جعجع زعيماً كبيراً مثل نهرو في الهند ونلسن مانديلا». سألنا بشارة مرهج – وكان وزير الداخلية آنذاك عن ما فبرك فقال: «سمير كان يملك ورقة المحافظة على حريته وعمله السياسي لكن خياراته كانت كبيرة. كان عليه الإندماج في الطائف. قلت له يوم التقيته في العام 1993: الطائف صيغة محلية وعربية وأممية ودولية. علينا الإلتزام بها. هو الآن يفكر بعقلية الدولة وليته فعل ذلك زمان. سمير جعجع كانت لديه الفرصة». قال مرهج بذلك الكثير وإن لم يقل «فُبرك الملف» مباشرة.

 

كثيرون إعترفوا أن الملف مفبرك. ماذا عن محامي الحكيم إدمون رزق؟ يجيب: «كانت تركيبات واضحة من اجل تصفية الحالة القواتية. كان المستهدف أبعد من شخص الحكيم وأنا لم أتردد لحظة في الدفاع عنه. كنت مستعداً وفخوراً بذلك. كان لبنان رهينة في ظلِّ تواطؤ داخلي وفئوي ونوع من التخلي الدولي عن لبنان الكيان. وكان سمير يُجسد قضية فتجنوا عليه وعلى القوات وعلى القضية».

 

الحياة قرار

 

لم ينس إدمون رزق اللقاء الأول بالحكيم في وزارة الدفاع: «رأيته كما اعرفه هادئاً وقال لي: أهلا بك يا رفيقي وصديقي. فأجبته: أنت لست وحدك. أنت قضية لبنانية. آمن جعجع بالمواطنية والحياة المشتركة التي هي الحلّ الوحيد الحضاري في لبنان النموذج حيث يصار الى تأكيد قدرة المختلفين على العيش معاً».

 

يتحدث رزق عن شعور جعجع بنوع من «البنوّة» معه «عاطفتي بالأبوّة كبيرة تجاهه خصوصاً حين أدركت حجم ما تعرض له من ظلم» ويستطرد: «معه تأكدت أن الحياة هي قرار وموقف و»وقفة». لا يستطيع القائد – كما لا يحق له – ان يقول: ماذا سأربح شخصياً إنما عليه أن يقول ما قاله الحكيم: ماذا عليّ أن اعطي بعد وبعد. ينطلق الموقف الوطني والمبدئي والفكري والسياسي من هذه المقولة الصائبة: ماذا عليّ أن أقدمه بعد؟ من يُقدّم حسابات الربح والخسارة في المواقف المبدئية لا يستطيع أن يكون قيّماً على قضية. الموقف هو ما يميّز السياسي والحكيم رجل موقف وإيمان. إيمان سمير جعجع ساعده على الصمود وخلّصه».

 

اليوم، في 21 نيسان 2024، نتأكد مجدداً أن ما حدث – وما سبق وتلا 21 نيسان 1994- لم يكن مجرد حالة فردية إنما قرار بالإطاحة بجماعة آمنت بوطن ودولة وحقّ وعدالة… أقحم الحكيم والجماعة قصداً في قضايا فُبركت بعناية لكن، في النهاية، «لن تكون إلا مشيئته». في صومعة شبيهة بحبسٍ، تحت سابع أرض، أمضى الحكيم 4114 يوماً، بني في معراب ما يماثلها «ماذا ينفع الإنسان لو ربح العالم وخسر نفسه؟». إنها آية من إنجيل لوقا رُفعت للتذكير بخيار صعب. صحّ. ما أصعب خسارة الذات. ما أصعب أن نربح حريتنا الشكلية ونخسر ذاتنا. سمير جعجع فكر على الأرجح في ذاك اليوم، في نيسان ذاك، بهذه الآية وهو يختار بين الهروب الى رحاب الكون وبين البقاء تحت سابع أرض واختار نفسه. عبارة أخرى لم يخترها سمير جعجع عن عبث على عتبة محبسته في معراب: لا يعتقدن معتقد في لحظة من اللحظات بأن الله قد مات أو بأنه لا يتدخل في التاريخ، فمهما يكن الطريق طويلاً، صعباً، شاقاً ومتعرجاً فإنه في نهاية المطاف لن تكون إلا مشيئته. كما في السماء كذلك على الأرض.

 

هو الإغتيال السياسي الذي أرادوه في 21 نيسان 1994. ويحلّ يوم 21 نيسان 2024 والإغتيالات مستمرة وباسكال سليمان ها هو شهيد بظروف لا بدّ أن تتكشف… لكن أبواب الجحيم لا بُدّ أن تتحطم.