Site icon IMLebanon

إغتيالٌ بين ثورتين

 

ذلك الصباح في 2 حزيران 2005 كنّا نستعدّ للإنطلاق في حلقة من “نهاركم سعيد” على شاشة “المؤسسة اللبنانية للإرسال” عندما بدأت تصل الأخبار عن انفجار في الأشرفية وعن أن المستهدف هو سمير قصير. لم يكن قد تمّ التأكد من الخبر بعد. تم الإتّصال بجيزال خوري. ردّت. أنتِ وين؟ قالت: في أميركا. شو في؟ لم يكن ممكناً سؤالها عن الموضوع: ما في شي. وتم إقفال الخطّ. بعد قليل كان الخبر صار حقيقة. وسمير قصير صار شهيداً.

 

بعدما كانت جيزال قد انتقلت من “المؤسسة اللبنانية للإرسال” إلى محطة “العربية” كنا قد قدمنا مع سمير قصير تصوراً لتحقيقات وثائقية عن الإغتيالات في العالم العربي ولكن لم يَدُر في بال أحد أن سمير سيكون هدفاً لعملية اغتيال وعنواناً لموضوع تحقيق لم يتم الكشف عن حقيقته بعد.

 

ربيع قبل الربيع

 

لم تكن المقالات التي كتبها سمير هي السبب الوحيد في اتخاذ القرار باغتياله. كانت علاقاته أوسع من مقالاته وهو الذي كان يريد أن يكون هناك وجه مشرق للعالم العربي تحكمه الثقافة والإنفتاح والديموقراطية لا التنظيمات الأصولية والأنظمة الدكتاتورية وكان مؤمناً أنّ هذه هي الطريق نحو التحرّر والتحرير ونحو ربيع عربي حقيقي يستطيع أن يبدل وجهة المواجهة من أجل القضية الفلسطينية التي كانت في صلب اهتماماته وصداقاته. لقد آمن سمير قصير بأنّ هذا الربيع ممكن أن يولد وكتب عنه قبل أن يصير حقيقة وقبل أن تترجمه الشعوب في الساحات وقبل أن يتم التصدّي له لإفشاله. كانت شبكة علاقاته تتجاوز حدود الدول لتجمع عدداً كبيراً من المثقفين الفلسطينيين واللبنانيين والمصريين والسوريين وسائر العرب. ولذلك شكّل هدفاً للمراقبة والملاحقة ولكن، ربّما لأنّه لم يَخَف ولم يتراجع تمّ نقل القرار إلى مستوى التخلّص منه دفعة واحدة بالإغتيال.

 

لعلّ اتهامه بأنّه كان من بين الأوائل الذين عاشوا حلم التغيير في لبنان وربيع بيروت هو الذي عجل في اتخاذ هذا القرار على أساس أنّه كان من بين الذين نظّروا وخطّطوا وكتبوا شعارات ثورة الأرز في 14 آذار 2005.

 

المواجهة بالدم

 

كان من المفترض أن يتوقف مسلسل الإغتيالات بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري ولكن بدا وكأنّ من اتّخذ القرار بالبدء باعتماد هذه الطريقة وجد أنها السبيل لاستكمال خطّة المواجهة. لم تربط أي علاقة جيّدة بين سمير قصير ورفيق الحريري ولكن مصيبة واحدة جمعتهما. عندما بدأت أجهزة الأمن اللبنانية السورية ملاحقة سمير قصير بعد احتجاز جواز سفره في مطار بيروت لم يكن رفيق الحريري بعيداً عن العمل على تأمين الحماية له. ولكن، من كان ليحمي من؟

 

لم يكن سمير قصير مقتنعاً بأنّ الحماية ممكنة. حتى رفيق الحريري لم يستطع أن يحمي نفسه. بعد محاولة اغتيال الوزير السابق مروان حماده في أول تشرين الأول 2004 بدا وكأنّ النظام السوري مع “حزب الله” وشركائهما في لبنان قد اتّخذوا القرار بعدم الإستسلام. في المقابل بدا وكأنّ كلّ الضمانات الدوليّة لم تكن ذات قيمة فمنذ صدور القرار 1559 صار كلّ من اتُّهِم بأنّه معه ويؤيّده هدفاً. في المقابل كان هناك إيمان بأنّ هذا القرار لا بدّ سيؤدّي إلى استعادة لبنان سيادته وحريته واستقلاله ليكون في طليعة عملية التغيير في المنطقة. وعلى هذا الأساس كانت الحالة الإستقلالية تكبر وتنمو من نداء المطارنة الموارنة إلى لقاء قرنة شهوان ولقاء البريستول.

 

عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري كان الهدف ضرب أحد رؤوس تلك الحالة ولكن النتيجة جاءت معاكسة. بدل أن تنجح العملية في القضاء على الحركة المعارضة لعهد الوصاية السورية على لبنان كانت تولد ثورة 14 آذار وكان الجيش السوري ينسحب من لبنان في 26 نيسان وكانت لجنة تقصّي الحقائق الدولية قد بدأت عملها لكشف ملابسات الجريمة وكانت قوى 14 آذار قد فازت بالجولة الأولى من الإنتخابات النيابية في 29 ايار في بيروت وتتحضر للفوز في الجولات التالية المقررة في حزيران وجاءت عملية اغتيال سمير قصير قبل الجولة الثانية بينما كان اغتيال الأمين العام الأسبق للحزب الشيوعي جورج حاوي في 21 حزيران بعد انتهاء الإنتخابات.

 

لم يشفع بجورج حاوي تاريخه في العمل ضمن مقاومة الإحتلال الإسرائيلي للبنان ورعايته انطلاق عمل جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية. ولم يشفع بسمير قصير تاريخه في العمل من أجل القضية الفلسطينية وعلاقاته مع قيادات كثيرة من منظمة التحرير الفلسطينية. كانت هناك قواعد جديدة للمواجهة التي كتبت بالدم. لم تكن عمليات الإغتيال هي وحدها السبيل إلى منع التغيير بل ترافقت هذه العمليات مع سلسلة من الحقائب المتفجرة التي ألقيت في أكثر من منطقة من المناطق الشرقية. سمير قصير اغتيل بعبوة وضعت في سيارته كما جورج حاوي. لم يكونا ليشكلا هدفين صعبين بسبب التدابير الأمنية البسيطة التي كانا يعتمدانها وكانت شبه معدومة. التدابير الأمنية الخارقة التي كان يعتمدها الرئيس رفيق الحريري لم تَحُل دون اغتياله وكان من الواضح أن من يُعِدّون هذه العمليات وينفّذونها كانوا يدرسون أهدافهم جيداً. سيارة مفخخة أم عبوة أم رصاصة.

 

لماذا الأدلّة غائبة؟

إذا كان التحقيق الدولي استطاع أن يربط بين قضية اغتيال حاوي ومحاولة اغتيال الوزير حماده في أول تشرين الأول 2004 ومحاولة اغتيال الوزير الياس المر في 12 تموز 2005 وبين قضية اغتيال الرئيس الحريري واعتبارها متلازمة معها وتدخل ضمن نطاق عمل المحكمة الدولية الخاصة بلبنان واتّهَم عناصر تابعة لـ”حزب الله” بها فلماذا لم يكن من الممكن اكتشاف أي رابط بين عملية اغتيال سمير قصير معها؟ هذا الأمر يرتبط أيضاً بمآل التحقيقات في قضايا الإغتيالات الأخرى التي استهدفت النواب جبران تويني وبيار الجميل ووليد عيدو وأنطوان غانم والرائد وسام عيد واللواء وسام الحسن والوزير محمد شطح ومحاولة اغتيال الوزيرة مي شدياق. وهي العمليات التي بدا معها وكأن الإغتيال بات حالة من الإدمان لا يمكن وقفها إلا باستكمال عملية انتقال السلطة في لبنان إلى ربيع لبناني حقيقي يستكمل ما كان ذات يوم حلماً من أحلام الناس التي نزلت إلى الشوارع في 14 آذار 2005 وعادت إليها في 17 تشرين الأول 2019 من أجل استعادة السيادة والحرية والإستقلال. هناك، قريباً من ساحة الشهداء التي شهدت على الثورتين، يبقى سمير قصير جالساً يضع رجلاً فوق رجل يراقب انهيار المنظومة التي وضعت تلك العبوة في سيارته مؤمناً أنّ الإنتصار سيكون قريباً وأنّ حكم المحكمة الدولية في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وإن صدر متأخراً، لن يكون إلا بداية طريق جديدة نحو تحقيق العدالة ومنع الإفلات من العقاب.