وصل الى مكتبي في تلفزيون “المؤسسة اللبنانية للإرسال” مغلف من “دار النهار للنشر”.
كان في داخله كتاب “الحرب اللبنانية” لسمير قصير ورسالة صغيرة منه ان الكتاب حصل على جائزة فرنسية وانه مسافر غداً الى باريس. وكنتُ قد طلبت منه في لقائنا الأول، قبل أسبوع ان يرسل اليّ كتب الدار كمادة لبرنامجي الأسبوعي بصفته مديراً للدار.
بوصول المغلّف. ابتسمت وطلبت مكتبه فوراً. ضحكنا كثيراً ووعدته بالاستضافة فور عودته من العاصمة الفرنسية، ولكنني طلبتُ أيضاً الكتب الصادرة عن الدار. “لن أرسل شيئاً سأسلمها باليد سيدتي”، أجاب.
بعد أسبوعين التقينا وفي يده كتاب واحد باللغة الفرنسية لغارسيا ماركيز “الحب في زمن الكوليرا”، وقال لي: كتب الدار أصبحت في مكتبك ولكن هذا الكتاب هدية مني.
طبعاً قصة ماركيز هي عن حب بلا أمل يصبح حقيقة بعد انتظار الحبيب لحبيبته أكثر من ثلاثين سنة.
وهكذا امتزجت قصة حبنا برواية غارسيا ماركيز وانتظرنا عشر سنوات كي يصبح ارتباطنا ممكناً.
انا الإعلامية الصاعدة في البرامج الحوارية.
وهو هذا الحالم العائد من باريس.
كانت بيروت حبيبته فامتزجنا بها.
كنا نسير كعاشقين في فيلم سينمائي على أنغام “ليالي الانس”… ولكن في بيروت.
كنا نضحك كثيراً ونسهر كثيراً ونتحدث كثيراً.
كان يشبه وليد مسعود بطل رواية جبرا إبراهيم جبرا، هذا المتمرد المناضل، العاشق الغارق في كل تفاصيل الانسان المعاصر.
من فلسفة مع “كانط” و”نيتشه” الى سباق السيارات كل النقاشات مفتوحة على مصراعيها.
والتناقضات أيضاً… مع المجتمع مع الزواج، في دائرة مراقبة الجوازات ولسمير مع الأمن العام غير قصة، فذات يوم صادر أحد رجال الأمن العام جواز سفره. كان السبب مقالاً اتهم فيه الأجهزة بالعمل لحماية النظام المستبد والوصاية ومدراء الأجهزة، فكتب: هذا ليس جهاز أمن عام بل جهاز أمن خاص.
لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها لمضايقات وليست الأخيرة.
الملاحقات اليومية التهديدات التلفونية والتسريبات من العملاء كانت واضحة لقمع قلمه كمرحلة أولى.
عشنا سويّاً بتهديد دائم ولكننا كنا سعداء. بيروت الشاهدة على قصة حب فريدة بطلها مؤرخها.
عشر سنوات وسمير يكتب تاريخ بيروت وانا أكتشف معه الأبنية وتاريخها، شخصياتها، مسرحها، مجتمعها في كل العصور… في ليلة من ليالي بيروت الجميلة خرجنا في الواحدة فجراً وجلسنا في مقهى بين العمارات في شارع كليمنصو. كنا، وعاشقون آخرون، في هذا المقهى وفي هذه الساعة المتأخرة من الليل والباكرة من الصباح. إنتظرَ كي نصبح وحدنا وطلب مني ان استمع الى صوت المدينة. لم أكن أعرف أن للمدن أصواتاً وان صوت بيروت رائع.
بعد عشر سنوات حصلنا على الطلاق كل من جهته وتزوجنا أمام الله والمجتمع.
يوم الاثنين في 14 فبراير/شباط وبعد احتساء القهوة، استعديت للخروج الساعة الحادية عشرة صباحاً لدفع راتب الجامعة الأميركية لأولادي في مصرف قرب فندق فينيسيا.
نظر الي متوسلاً ألا أذهب الآن وأن موعده الأول هو الساعة 12 والنصف ظهراً.
كان غريباً ذاك الصباح وكان سعيداً فالليلة السابقة كانت أول دعوة للعشاء في منزلنا، كان غسان التويني ومجموعة مرموقة من الأصدقاء. كان فرحاً بحياتنا الجديدة الهادئة.
غادرنا المنزل معاً في الثانية عشرة هو الى جريدة “النهار” وأنا الى المصرف.
ولكني اخترت مصرفاً آخر تتعامل معه الجامعة الأميركية أقرب الى منزلي، لأن الوقت داهمني لتسديد استحقاقات الدراسة.
حوالى الواحدة بعد الظهر وانا في المصرف في الأشرفية، سمعت صوت انفجار ضخم ورأيت المارة في الشارع مذعورين.
حاولت الاتصال بسمير ولكن الخط مقفل، وكذلك الأمر مع ابني الخط مقفل. حاولت مع ابنتي التي اجابتني انها في الجامعة ولا يعلمون هناك شيئاً عن الانفجار.
قررت التوجه الى جريدة النهار لأطمئن عليه، وإذ باتصال يردني من مدير قناة العربية التي كنت اعمل فيها وأبلغني ان الانفجار استهدف رفيق الحريري.
لم أستطع الوصول الى سمير الاّ بعد ساعة، عانقني وقال لي: لا أتخيل انه كان من الممكن ان تكوني ضحية الانفجار لأن المصرف قد احترق في الحادثة.
توجهنا الى منزل رفيق الحريري وبدأت الثورة.
وتحولت حياتنا من المنزل الى الساحات. قلقت عليه ولكن كنت اريده لي لفترة صغيرة لاستراحة من عشر سنوات في الخفاء والخوف والمراقبة. سخر مني وقال لي: لم تغاري من امرأة تغارين من ثورة.
بعد ثلاثة أشهر دعتني الـ”سي.أن.أن “بعيدها الـ 25 الى الولايات المتحدة، كي أشارك بندوة عن حرية التعبير في إطار احتفالات القناة. كانت ليلة الخميس ليلة كتابة مقاله الأسبوعي، عاد اليّ في العاشرة مساء وذهبنا الى مقهانا المفضل قبل ان يوصلني الى المطار. وعدني انه بعد أسبوع عندما اعود سنذهب في إجازة.
صباح الخميس التالي، وبعد ان كنت قد تكلمت معه هاتفياً من أميركا وأبلغته ان وصولي سيكون يوم السبت، وتبادلنا كل كلمات الحب الممكنة والمستحيلة، جاءت رسالة على هاتفي عن انفجار في بيروت. اتصلت بسمير وكان خطه مقفلاً، بابنتي وكان أيضاً خطها مقفلاً ثم بابني الذي أبلغني ان الانفجار طاول سمير هذه المرة.
ثم توالت الأخبار انني كنت معه في السيارة وانني قتلت أيضاً.
رأيت خبر موتي على شاشة التلفزيون ثم رأيته في سيارته سانداً رأسه نائماً، ميتاً.
***
كان القرار أن أعيش وأن أذكّر القاتل أن إعدام الجسد لا يلغي الروح.
وانشأتُ “مؤسسة سمير قصير” كي تكون شهادته من أجل الحياة ودعوة لتجديد ثقافة الحريات.
تضم المؤسسة الآن حوالى العشرين موظفاً وتدافع عن حرية الصِحافيين والمثقفين في المشرق العربي. تقوم بمشاريع ثقافية منها “مهرجان ربيع بيروت” المجاني لتدعم الفن والثقافة.
تشكّل “المؤسسة” اليوم مرجعاً عالمياً بموضوع رصد الإنتهاكات ضد الإعلاميين، ونظمت ورش عمل لصحافيين شباب في التقنيات الحديثة ووسائل الاتصال الاجتماعي.
دربت مراسلي الحرب لحماية أنفسهم في مناطق الاشتباكات مع أهم المؤسسات الدولية.
***
لم أكن أعرف اننا عندما كنا نسير في بيروت كنا نسير نحو قدرنا كالطيور نبحث عن مكان كي نموت.
حكايتي هي حكاية من منطقتنا.
قصة بدأت مع كتاب حصل على جائزة أوروبية و بـ”حوار” في برنامج تلفزيوني.
قصة تخطت حواجز المجتمع وأنهكت العاشقين.
قال لها: “أريد ان أمضي ما تبقى من حياتي معك”.