أتخيل هذا العنوان يتصدّر فيه سمير قصير مقاله الشهير وكأنّه صبيحة الثاني من حزيران 2020. كيف؟ عن بُعد طبعاً كما هو رائج اليوم، وبعد خمسة عشر عاماً ونيّف على عنوانه الشهير”عسكر على مين.”
في ذكرى اغتيال زميلنا ورفيقنا ومُلهِمنا سمير، الناطق باسم ثورة الأرز قبل أن تندلع، والكاتب باسم الربيع العربي قبل أن ينفجر، ضحيّةُ ماضينا وشهيدُ حاضرنا. تتضارب في ذهني ذكرياتٌ تحوّلت مع هذا الزمن اللبناني العربي العالمي الرديء الى يوميات أي مواطن، وخصوصاً أي مُناضل.
إن صحّت المقارنات، فإن سمير الذي ذهب بالممانعة الى أبعد وأبعد من ممانعتهم، صفاءً ونقاوةً وطُهراً، والذي ارتفعت شهادته الى ما بعد بعد شهادة الذين ادّعوا السقوط وهم يقبضون على لبنان ويذبحون سوريا ويتاجرون بفلسطين.
ذات يوم في مطار واشنطن، التقينا مع وليد جنبلاط القاضي الفرنسي بروغيير، المُناطة به مهمّة التحقيق في جرائم الإرهاب التي وقعت في فرنسا ولبنان، والمُتّهمة فيها مخابرات دول وأحزاب. في ذاك الصالون، الذي انتظرنا فيه معاً طائرة باريس فبيروت، استعرضنا وقائع ومراحل القضايا المُقامة على النظام السوري و”الحرس الثوري”. فقال لنا بروغيير من دون مواربة: لا تُتعبوا أنفسكم في البحث والتحرّي والتحليل. أحدهما قرّر والثاني نفّذ، لا حاجة في نظري للمحاكم المحلية والدولية، الأمر معروفٌ، محسومٌ، فاضحٌ.
كانت قد مرّت سنتان على اغتيال سمير. عامان على وقوفنا أمام سيارته الصغيرة البيضاء حين ظهر جذع جسمه واختفى أسفله. على وجهه بسمةٌ أخيرةٌ فيها سِمات الراحة والاتّهام في آن.
كان سمير قصير قد ارتاح آنذاك الى أولى إنجازات ثورة الأرز التي ساهم في إطلاقها وقاد أهمّ محاورها الفكرية والميدانية، يوزّع الأفكار والماء والسندويشات: خرجت القوات السورية وبدأ انهيار النظام الأمني في لبنان وانطلق التحقيق الدولي في قضية استشهاد الرئيس رفيق الحريري. لم يكن سمير يعلم بعد أن قوى ثورة الأرز ستفوز في الإنتخابات كما تنبّأ بذلك الحريري، فأغضب بشّار ولحود. كان شاهداً مغبوناً على عودة ميشال عون بجهد الثورة وفي حقيبته مشروع انقلاب عليها. لم يكن على يقين بأن المجلس النيابي سيُخرج سمير جعجع من أقبية اليرزة، ولا أنّ العشرات من رفاقه سيلحقون به الى الشهادة لكي تعبث بتضحياتهم بعد أشهر وسنوات قليلة، الخطوات الإستسلامية والصفقات الكارثية.
اما اليوم، فحتى حدود سايكس بيكو تبخّرت، واستقلالات 1943 و1946 في لبنان وسوريا تناثرت، وصيغة التقسيم( 1947) في فلسطين تحطّمت، ومعها الدولة والدولتان وأحلام العودة وآمال الوحدة وأوهام العروبة وطعم الكرامة. فقط كلمات سمير قصير بقيت، كما بقيت شهادته في مثل هذا اليوم.
صباح صيف حزين رُوي بدماء قد تُزهر قيامةً ولو بعد حين. فمن لم يرحم أحداً لن يُرحمه أحد. وقد توالت الى اليوم فصول الحساب الإلهي.
سمير قصير ارتاح الى أولى إنجازات ثورة الأرز التي ساهم في إطلاقها وقاد أهمّ محاورها الفكرية والميدانية