مرت الذكرى الـ16 لاغتيال الأخ والصديق سمير قصير فيما بيروت لم تعد بيروت ولبنان لم يعد لبنان. كان سمير قصير اللبناني – السوري – الفلسطيني احد رموز بيروت وثقافة الحياة في لبنان وذلك ليس بفضل مقاله الاسبوعي في جريدة «النهار» فحسب، بل بسبب نشاطه السياسي والثقافي والاكاديمي أيضا. هذا النشاط الذي شمل، بين ما شمله، كتاب عن تاريخ بيروت التي كان سمير قصير احد العاشقين لها ولكلّ حيّ وزاوية فيها.
في الليلة الأخيرة التي كان فيها سمير قصير على قيد الحياة، كان فرحه لا يوصف بعدما شعر بالحرّية وخرج من مطار بيروت وعاد الى لبنان عبره من دون مضايقات. احتفل سمير قصير بحرّيته على طريقته.
عشية الجريمة، كنّا مجموعة من الأصدقاء في مطعم «لو روج» في حيّ الجميّزة العريق الذي كان يعجّ بالحياة. لم يبدد فرح سمير قصير في تلك الليلة، (مساء الاوّل من حزيران – يونيو 2005)، بعد مضيّ شهر ونصف شهر على الانسحاب العسكري السوري، سوى هاجس واحد. كان مصدر هذا الهاجس تصرّفات ميشال عون العائد حديثا الى لبنان من منفاه الفرنسي. راح سمير قصير يتحدّث عن أفكار لمقاله الجديد على نسق مقال قديم له عنونه «عسكر على مين يا عسكر». لم يخف ان المقال موجّه الى ميشال عون وتصرّفاته الغريبة وبداية تحوّله من مناهض للاحتلال السوري الى متغاض عنه وذلك تمهيدا للتفاهم مع «حزب الله» الذي ملأ نيابة عن ايران الفراغ الذي خلّفه الانسحاب العسكري والأمني السوري من لبنان.
كان اغتيال سمير قصير الإغتيال الأوّل من نوعه بعد تفجير موكب رفيق الحريري في 14 شباط – فبراير 2005. تكمن خطورة الاغتيال في وجود جهة وجدت انّ التخلّص من رفيق الحريري، الذي أعاد لبنان الى خريطة المنطقة، ليس كافيا. لم يكن كافيا للقضاء على بيروت وإلغاء دورها بعدما صمدت المدينة كلّ هذا الوقت ونفضت عنها غبار الحرب الداخلية وحروب الآخرين على ارض لبنان. اكثر من ذلك، عادت بيروت مدينة موحّدة وعادت تجذب العرب والأجانب وتبعث الامل بمستقبل افضل للبنان.
جاء استهداف سمير قصير من اجل تأكيد ان لا مكان لثقافة الحياة في لبنان المطلوب تدميره بشكل كامل وافراغه من ايّ كفاءة او قطاع ناجح. يكفي عرض لائحة بالشخصيات التي اغتيلت تباعا بعد سمير قصير، بدءا بجورج حاوي وجبران تويني وصولا الى محمّد شطح ولقمان لسليم، مرورا بوليد عيدو وانطوان غانم وبيار امين الجميّل ووسام الحسن ووسام عيد للتأكّد من أمور عدّة. بين هذه الامور ان بين الأهداف المطلوب الوصول اليها اسكات أي صوت لبناني يجرؤ على تسمية الأشياء باسمائها او كشف من وراء اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وقبل ذلك محاولة اغتيال مروان حمادة في اوّل تشرين الاوّل – أكتوبر 2004. بكلام أوضح، المطلوب اغتيال لبنان. هذا ما رآه سمير قصير باكرا عندما استشفّ خطورة ما يقوم به ميشال عون الذي يتبيّن كلّ يوم اكثر لماذا كان ذلك الإصرار لدى «حزب الله» للإتيان به رئيسا للجمهوريّة.
تكفي نظرة سريعة الى ما آل اليه لبنان في الثاني من حزيران – يونيو 2021، يوم مرور 16 عاما على اغتيال سمير قصير للتأكّد من أن لبنان استسلم اخيرا لقدره البائس بعدما قاوم طويلا المحاولات المستمرّة لاخضاعه وتحويله الى مجرّد تابع لإيران، ولتكون بيروت بمثابة ضاحية من الضواحي الفقيرة لطهران.
بقي سمير قصير حيّا من خلال النشاطات التي كانت وراءها امرأة جبّارة وشجاعة، امرأة استثنائيّة، اسمها جيزيل خوري، زوجة سمير قصير. بقيت الجائزة السنوية لسمير قصير وبقيت مؤسسة سمير قصير (عيون سمير قصير) التي تدافع عن الحريات الصحافية والصحافيين في كلّ انحاء المنطقة. ما لم يبق هو الاحتفال بتسليم الجائزة. فقد كلّ نشاط مرتبط بثقافة الفرح نكهته في لبنان. لم تعد هناك حفلات مسرحيّة وثقافية وموسيقيّة من ايّ نوع بسبب الوضع الذي تعاني منه بيروت التي تمكّن منها الحزن، كما تمكّنت منها ثقافة الموت أخيرا.
كان توجّس سمير قصير من ميشال عون في محلّه مساء الأول من حزيران – يونيو 2005 في مطعم «لو روج».
بعد 16 عاما على تلك الليلة، فقدت بيروت كلّ مقوّمات الحياة. فقد لبنان كلّ أسباب تميّزه وكلّ مقوّمات هذا التميّز. في ظلّ «العهد القوي»، حيث لا همّ لرئيس الجمهورية سوى انقاذ المستقبل السياسي لصهره جبران باسيل الذي فرضت عليه عقوبات أميركية، لا كهرباء ولا دواء ولا مصارف ولا جامعات ولا صحف ولا ليرة لبنانية صامدة. هناك عدد قليل من الفضائيات ما زالت تؤكد الحضور الإعلامي للبنان في ظروف اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها في غاية التعقيد والصعوبة.
اذا عاد سمير قصير اليوم الى بيروت، سيتأكّد انّها لم تعد مدينته. لم تعد بيروت عاصمة العرب من المحيط الى الخليج. بدل ان تكون بيروت رافعة للثورة الشعبيّة السورية التي انطلقت قبل عشر سنوات، هناك لبنانيون يشاركون في الحرب على الشعب السوري… فيما بيروت صامتة. من سخرية القدر انّ في لبنان رئيسا للجمهورية وصهره يدعمان بشّار الأسد ويفرحان بفوزه في انتخابات رئاسيّة، اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها مهزلة المهازل. اكثر من ذلك، لا وجود لمن يسأل عن اللبنانيين في السجون السوريّة وكأن هؤلاء حصلوا على حقوقهم بمجرّد ان ميشال عون صار رئيسا للجمهوريّة!
هل بات في الإمكان القول ان سمير قصير مات فعلا؟ هل مات فعلا مع تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب – أغسطس 2020 وبعدما تبيّن ان لا وجود لمن يريد معرفة من فجّر المرفأ او لماذا تفجّر؟
المفارقة انّ حيّ الجميّزة الذي امضى فيه سمير قصير السهرة الأخيرة مع أصدقاء له، كان احدى الضحايا الاساسيّة لتفجير ميناء بيروت. الحيّ على مسافة قريبة من المرفأ. هل كان تفجير المرفأ الموت الثاني، بل الحقيقي، لسمير قصير بعد نجاته من الموت الاوّل؟