كيف لا يُفلت المرء، عندما تعترضه الذكرى العاشرة لاغتيال سمير قصير، هذا الاغتيال الذي افتتحت به الحرب السرّية والعلنية ضد الحراك الاستقلالي اللبناني في مرحلة ما بعد جلاء جيش النظام السوري عن لبنان، كيف لا يُفلت المرء ساعتئذٍ، من العبث بعض الشيء بعنوان كراس سمير قصير الذي صار، بحكم توقف قلمه مع الاغتيال، بمثابة الوصية؟ عندما نقرأ «تأملات في شقاء العرب» كيف يمكن الإفلات من نزوة تعديله الى «تأملات في شقاء ربيع العرب؟».
في العشر سنوات الماضية، جرى التعامل مع تراث سمير قصير البحثي والكتابي والنضالي، ومع النموذج الذي شكّله بسيرته التي اختار الشقاة إيقافها في منتصف طريقها التراكمي الفذ، جرى التعامل مع كل هذا على أنّ الرجل أكثر من دعا الى ربيع لبنان الاستقلالي، وربيع سوريا اللابعثي، وربيع العرب اللااستبدادي. وقصير كان فعلاً موجوداً في كلّ هذا، وحريصاً على الأفق الكونيّ لعملية تفكيره على الدوام، تماماً كمقدار التزامه بحركة النضال لتغيير الواقع اللبناني، وبالأخص في مواجهة المنظومة التي شكّلها استتباع النظام السوري للبنان لعقد ونصف العقد بعد انتهاء الحرب الأهلية.
لكن قصير ليس فقط هذا المثقف الرومانسي الثوري الذي نحتاجه كلما تحرّكت بنا همّة لاستعادة روح الحركة الاستقلالية اللبنانية، أو محاولة «استنهاضها»، أو كلما احتجنا إلى جملة ربط بين تحرر اللبنانيين وتحرر السوريين، أو الى جملة من أجل الديموقراطية ضد أعداء مفهومها أو المتحايلين عليها. إنّه أيضاً، دليل عملي للخوض في المشكلات المتفاقمة على جدول أعمال شعوب هذه المنطقة من العالم، من خارج الثنائية الطاغية، أي ثنائية من يقول لك «نحن سيئون (بالفطرة، أو بالنص)«، ومن يقول لك «نحن ضحايا» ليس إلا. وهذا بالضبط هو الخيط الناظم لأفكاره في الكراس الذي وضعه بالفرنسية قبل مماته، ثم ترجم الى العربية، «تأملات في شقاء العرب».
كتبه، تحت تأثير حدثين أساسيين، هزيمة الانتفاضة الثانية في المناطق الفلسطينية، والاحتلال الأميركي للعراق. هذا مع الأخذ بالاعتبار التراكم الايجابي في الاتجاه المعاكس: تصاعد وتيرة الرفض اللبناني لاستمرار نظام الوصاية السورية، وبروز إشكالية «توريث الجمهورية» بين النموذج المتمم منها في سوريا، والنموذج الذي كان مطروحاً في مصر (أو في ليبيا أو في اليمن).
كانت هناك اذاً عناصر كثيرة للتشاؤم، والكتاب يستوعب التشاؤم لكنه وبدلاً من أن يقوده الى التعجيز واليأس، أو الى المكابرة الإرادوية، فإنه يدعو إلى إعادة التصالح مع الواقع من أجل تغيير هذا الواقع نفسه، ويؤثر التوليفات على الاختيارات الحادة، إنما توليفة تنحاز بشكل واضح للديموقراطية كمفهوم كوني، وللمكتسبات الحداثية الغربية. هذا في الوقت نفسه الذي ينتقد في كتابه «أن تياراً فكرياً متأثراً بالمحافظين الأميركيين الجدد يؤيد الفكرة القائلة بأن أحد عوامل تخلف العالم العربي يعود الى استمرار النزعة العروبية، وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة«. وبالتوازي يقول: «فإن كان لا يصح القبول بمبدأ الغاية تبرر الوسيلة لدى الأقوياء، فإن رفضه لدى الضحايا يكون من باب أولى، وهذا ما يعني عملياً عدم الخلط بين الإرهاب والمقاومة بحجة أن الغرب من جهته لا يميز بين المقاومة والإرهاب».
قد يختلف المرء مع فكرة هنا أو هناك في هذا الكراس، لكن روحيته نفسها حريّ استلهامها اليوم، خصوصاً عندما يسلّط الضوء على خطورة المبالغة في تصوير الشقاء العربي، واعتباره عضوياً فينا، بشكل يؤدي الى مفاقمته. يقول شهيدنا: «ييأس البعض أمام الشقاء العربي، ويعتقدون أن العرب متجذرون في مأزقهم لدرجة أنهم غير قابلين للخروج منه، فيتفاقم هذا المأزق بهم. يعبر عن هذا المنحى أهل الحداثة المتطرفون، ويتبعهم في ذلك، بعض الليبراليين، وبعض الخائبين من الحركة القومية أو بعض قدامى مناضلي اليسار«.
كتب هذا الكلام قبل «الربيع العربي» بسبع سنوات، وهو اليوم بالتحديد، في ظل ما تكابده المجتمعات العربية من «شقاء الربيع» نفسه هنا، و»شقاوته» هناك، مدعاة لنظر من جديد.
في الذكرى العاشرة، سمير قصير نحتاجه كدليل نظر، أكثر من ذي قبل، وليس فقط كنموذج «استنهاضي» للهمم.