“الميادين” توثّق رحلة المقاوم والمعتقل والإنسان
سمير القنطار: كل الدروب توصل إلى فلسطين
من لم يعرف في حياته سوى النضال والمقاومة، لم يستطع أن يحتمل البقاء في المنزل بعد تحريره من المعتقل. إلحاح مستمر منه على العودة إلى الميدان يقابله السيد حسن نصرالله بالدعوة إلى التروي والاستمتاع بالحرية على أن يقرر لاحقاً ما إذا كان يريد الانخراط في العمل السياسي أو الجهادي. لكن خيار القنطار كان واضحاً: خرجت من المعتقل لأكمل المشوار الذي بدأته في عام 1979. فكان له ما أراد. أول الغيث وحدة الدروع في “حزب الله”، قبل أن ينتقل إلى عمل أكثر حساسية: عمليات الداخل (فلسطين).
في عام 2011، تغيرت الوجهة. أعلن “حزب الله” انخراطه في الحرب ضد الإرهاب على أرض سوريا، فصار لعميد الأسرى في السجون الإسرائيلية غاية أخرى. الكثير من النقاشات، أفضت في النهاية إلى الموافقة على طلبه إنشاء المقاومة الشعبية في الجولان. صفاته الشخصية وتقدير أغلبية الجولانيين لنضاله، جعلاه ينطلق سريعاً في مهمة منفصلة تماماً عن الأحداث السورية، التي “لم يشارك فيها ولو بطلقة واحدة”.
صار المتطوعون بالمئات، وصارت العين الإسرائيلية ترصده أكثر. كيف لا وهو يخترق للمرة الثانية دفاعات العدو، فيصل إلى الجولان بعد نهاريا. لاحقوه لينتقموا، فنجا من خمس محاولات اغتيال، قبل أن يحقق غايته التي لطالما خشي أن لا تتحقق. كان عميد الأسرى يفزع من الموت في السرير أو في حادث سير. كان يعتقد أنه لا يستحق أن ينهي مسيرته النضالية إلا بالشهادة، فنالها في 19 كانون الأول 2015.
سيرة ضخمة لبطل استثنائي لا يتزعزع إيمانه بفلسطين – القضية الأسمى، التي لم تحد بوصلته عنها حتى استشهد، تاركاً خلفه نواة لمقاومة جولانية لا تحيد عن الطريق الذي رسمه لها.
تلك السيرة الطويلة من العمل الفدائي المجبول بثلاثين عاماً من الاعتقال فالاستشهاد، تجمعها زوجته الزميلة زينب برجاوي في وثائقي من ثلاثة أجزاء من إخراج الزميلة يارا أبو حيدر، وتعرضه قناة “الميادين” بدءاً من الثامن من كانون الثاني المقبل.
يتميز الوثائقي بمعلومات تكشف للمرة الأولى، لا سيما عن حياته بعد تحريره من المعتقل، كما يعتمد بشكل كبير على مقاطع فيديو تصل مدتها إلى 35 ساعة كان سمير قد صوّرها على مدى شهرين، ولم تعرض بعد. كذلك، يعج الوثائقي بمقابلات مع سياسيين ومناضلين ورفاق عايشوا سمير أو عرفوه منذ الطفولة حتى الشهادة، ويتوزعون على فلسطين (زميل الزنزانة جبر وشاح ووالدة الأسرى أم جبر والأسير الجولاني المحرر بشر المقت) ولبنان (الرئيس إميل لحود، اللواء عباس إبراهيم، النائبان غازي العريضي وطلال ارسلان، وفيق صفا، الزميلان سامي كليب وزاهي وهبي، اللواء علي الحاج وزوجته سمر الحاج، الأسير المحرر نبيه عواضة والعميد الياس حنا وأستاذ سمير أيام الدراسة وديع حمزة وآخرون) وسوريا (فيصل المقداد، بشار الجعفري وخالد العبود وزياد بدرية أخ الشهيد موفق بدرية الذي كان استهدافه في عام 2014 أول استهداف يطال المقاومة في الجولان ومختار الجولان عصام الشعلان أبو الشهيد فرحان الشعلان الذي استشهد مع سمير) وإيران (الرئيس احمدي نجاد، حسين دهقان، علاء الدين بروجردي وحسين أمير عبد اللهيان والمؤرخ يعقوب توكلي)، مع مقابلة لافتة للنظر مع سجانه يامن زيدان، الذي عاد وحمل قضيته فصار محاميه.
إلى نهاريا
“القنطار.. إلى نهاريا” هو عنوان الجزء الأول، الذي يعود فيه المناضل إلى مقاعد الدراسة، التي تركها لينتقل إلى الأردن، حيث ألقي القبض عليه أثناء محاولته مع مجموعته التسلل إلى فلسطين المحتلة. سنة كاملة قضاها في السجون الأردنية، عاد بعدها إلى لبنان، ليستعد للانطلاق مجدداً إلى فلسطين، لكن هذه المرة من البحر.. إلى نهاريا لتنفيذ عملية “جمال عبد الناصر” رداً على اتفاقية كامب دايفيد، ومتأثراً بعملية الخالصة (كريات شمونة).
لم يقتل سمير الطفلة الإسرائيلية. الصحافة الإسرائيلية قالت في حينها إن الشرطة هي التي قتلتها مع والدها. “مانشيتات” تلك الصحف سقطت من أرشيفها وما تزال. كل الأعداد متوفرة حتى الآن إلا ذلك العدد. ضابط الاستخبارات السابق في السجون الإسرائيلية تسفيكا سيلع يقول إن سمير القنطار بريء والسلطات لفّقت له التهمة، أما ملف تشريح جثة الفتاة، فما يزال بدوره سرّياً حتى اليوم.
حان موعد الحكم. “هل لديك ما تقوله؟” يرد القنطار: لا يهمني إذا حكمت عليّ بالإعدام أو بعشر مؤبدات، ما يهمني أنني جئت من أجل إعادة الهوية الوطنية للشعب الفلسطيني وسيأتي يوم يستعيد هذا الشعب حقه الوطني على هذه الأرض.
بعد المداولات صدر الحكم: السجن 542 سنة ونصف سنة. أما ردة فعل سمير فسؤال واحد للقاضي: هل تعتقد أن دولة إسرائيل ستبقى 542 سنة ونصف؟
العميد
“القنطار.. العميد” دخل إلى السجن في سنّ السادسة عشرة وتحرر في سن السادسة والأربعين، فصار عميداً للأسرى العرب في السجون الإسرائيلية. عمر كامل قضاه القنطار خلف القضبان، مع الكثير من الخيبات والإنجازات، أبرزها تأسيس الحركة الأسيرة، وهو إنجاز كان ثمنه الكثير من الإضرابات عن الطعام والاعتصامات والشهداء.
أربع مرات وجد القنطار نفسه وحيداً في السجن، بعد خروج رفاقه في عمليات تبادل. وصلت الحرية إلى الفم في أكثر من مناسبة قبل أن يسقط اسم القنطار من لوائح المحررين في اللحظة الأخيرة. صديقه أحمد الأبرص الذي نجا معه من عملية نهاريا خرج من المعتقل في عملية التبادل الشهيرة (النورس) التي أجرتها الجبهة الشعبية لتحرير فلطسين في عام 1985، وخرج بموجبها 1130 أسيراً، وهو بقي، بالرغم من أن التهمة كانت واحدة.
تبادل عام 2004 ظل محفوراً في ذاكرة القنطار. حينها قال السيد حسن نصر الله: لا صفقة من دون سمير. وكان ذلك كفيلاً بإلغائها بعدما تبين أن الإسرائيلي مستعدّ للتضحية بها في حال الإصرار على شمولها لسمير. أنقذ القنطار رفاقه من البقاء في السجن. اتصل بالوسيط وقال له: أبارك هذه الصفقة من دوني، طالباً منه نقل موقفه إلى الجميع.. فخرج الرفاق وبقي سمير.
قال نصرالله في الاحتفال الذي أقيم للأسرى المحررين حينها: لأنه لم يطلق سراح سمير القنطار، أؤكد أن الإسرائيلي سيندم في المستقبل. أضاف: رهانك يا سمير رهان صحيح.
بدا تصرف سمير في تلك اللحظات منسجماً مع تاريخ الرافض لمساومة السجّان منذ اللحظات الأولى لسجنه. بعد أسبوع من اعتقاله، وُعد بإطلاق سراحه مقابل الإعلان أنه استُغّل وغُرّر به، لكنه رفض.
وقبل عشر سنوات قيل له اسحب الموضوع من يد “حزب الله” واهدِ الإنجاز لفؤاد السنيورة (كان رئيساً للحكومة) فرفض رفضاً قاطعاً.
وصل الموعد المنتظر منذ ثلاثين عاماً. فصار سمير حراً.
“أبو علي”
يبدأ الجزء الثالث “القنطار.. أبو علي” بمشهد السيارات المستقبلة، وباحتفال ملعب الراية. للزواج حيزه في الوثائقي بشهر عسله الكوبي. “أبو علي” لقب فيه الكثير من الدلالات التي تشير إلى شخصية المناضل المقدام وإلى شخصية الرجل الذي ذهب إلى فلسطين في عام 1979 علمانياً وغادرها ملتزماً شيعياً، وإلى شخصية الوالد الذي ما يزال ابنه علي (خمس سنوات)، حتى اليوم، يقف عند باب الشرفة منتظراً أباه لينهي سيجارته.
تلك حكاية يتناولها الوثائقي بجرأة. فالأسير الذي كان يراسل السيد نصرالله بصفة “الشيخ الجليل”، احتاج إلى الكثير ليناديه بسماحة السيد. بين المرحلتين، فُتن عميد الأسرى بتجربة “حزب الله” وبإصراره وثباته على الخط المقاوم. كان يسمع قائد المقاومة يعد.. ويفي. يضع هدفاً نصب عينيه ويحققه. يلتزم قضية الأسرى فلا يحيد عن دربها حتى تحريرهم جميعاً. أحب أن يسبر غور الفكر الذي يجعل هؤلاء ثابتين على مبادئهم، فكان أن صار مؤمناً ملتزماً بالفقه الذي لولاه لما غرف من عبق الحرية. قد يكون الأمر صعباً على محيط سمير لكنه كان رجلاً يعرف ماذا يريد، فما كان من الجميع إلا أن احترم رغبته.
تسترسل زينب في حديثها عن علاقتها بسمير المناضل والزوج والأب.. والشهيد. تقول إن ارتباطها بسمير كبّرها.
من زينب وعلي إلى سمير: تحررت عندما كسرت القيد وولدت عندما رزقت الشهادة. ومن القنطار وصية إلى كل المناضلين: طريق فلسطين هي طريق الحرية. أنا مشيت وربما لن أعود، لكن الثقة أن كل الثوريين سوف يتابعون الطريق الذي نشقه اليوم بدمائنا والذي شقه آلاف مثلنا.