Site icon IMLebanon

صنعاء لن تُبدّل جلدها!

 

قرأت مرة للدكتور عبد العزيز المقالح يكتب عن صنعاء، فوقع حبها في قلبي دون أن أراها، ولكنه كان من ناحيته قد وقع في حبها قبلي، بعد أن رآها طفلاً قادماً إليها من الريف، فملأت هي روحه منذ الوهلة الأولى، ولم تفلح مدينة أخرى في أن تنافسها في أعماقه، على كثرة المدن التي حط رحاله فيها!

وكان ابن بطوطة قد ذكر عنها في كتاب رحلاته الشهير «تُحفة النظار في عجائب الأسفار وعجائب الأمصار» ما لم يذكره عن مدينة سواها… قال: إنها أنظف المدن.. أو من أنظفها!

وعندما يبدأ ابن بطوطة رحلة من طنجة المغربية، لخمسة وعشرين عاماً، يدور خلالها على أكثر من مدينة في المنطقة، وأكثر من عاصمة، ثم تستوقفه صنعاء من بين ما استوقفه، فلا بد أن نُصغي إلى كلامه، وأن نقف أمام عبارته، لأننا إزاء مدينة ليست عادية بمعايير المدن!

ولم يكن الدكتور المقالح هو وحده الذي وقع في غرامها منذ لحظته الأولى معها، ولا كان ابن بطوطة كذلك، فالقلقشندي قال إن دمشق وحدها هي التي تنافسها في اعتدال طقسها، وصفاء سمائها، وخُضرة أشجارها، وحُسن المُقام فيها!

والأديب الإيطالي الأشهر ألبرتو مورافيا كان يجد متعته في الذهاب إليها، وفي الإقامة في أحيائها القديمة بالذات، وكان مسحوراً بها. وحين كتب عنها في سبعينات وثمانينات القرن الماضي، كانت كتابته في حبها أقرب إلى الشعر منها إلى النثر!

هل تدرك الجماعة الحوثية هذا كله، أو شيئاً من هذا كله، وهي تضرب صنعاء هذه الأيام، وتقتل الحياة فيها، ثم تقتل رئيسها السابق علي عبد الله صالح بدم بارد؟! ومتى يدرك الحوثي الذي اقتحم صنعاء على الرئيس عبد ربه منصور هادي، يوماً، أنها لليمنيين، لا لغيرهم، وأنها نشأت في الأصل يمنية، وسوف تبقى كما كانت وعاشت على الدوام؟!

لم يبالغ الرجال الذين اصطفوا مع الرئيس الراحل علي عبد الله صالح ضد جماعة الحوثي، حين قالوا إن اصطفافهم راجع إلى رغبة كل رجل فيهم في ألا تتحدث صنعاء الفارسية، وفي أن تخلع العمامة الإيرانية التي يريد عبد الملك الحوثي أن يضعها على رأسها. فرجال القبائل الذين انتفضوا مع صالح لا ينكرون بالطبع أن جماعة الحوثي جماعة يمنية، غير أنهم يريدونها أن تتصرف وفق هذا المنطق وحده؛ منطق أنها تعي معنى أن تكون جماعة يمنية، تحفظ اليمن لليمنيين، لا أن تصبغه بصبغة إيرانية لم تكن له في أي يوم، ولن تكون!

صنعاء كانت يمنية مدى تاريخها، ولم تتلون ذات يوم بغير اللون اليمني الذي ميّزها دوماً، فأعطاها ما جعل ابن بطوطة يهيم بها، ومن ورائه القلقشندي، ومن بعدهما مورافيا، وقبل الثلاثة يأتي الدكتور المقالح، وغيرهم كثيرون هاموا بهذه المدينة الفريدة، وسوف يهيمون!

صنعاء لن تتكلم الفارسية، ولن ترتدي العمامة الإيرانية، لأنها تفضل القهوة العربية، ويعتدل مزاجها إذا ما تناولت فنجاناً منها تلو فنجان، وهي لا تنوي تغيير المزاج الذي عاشت به، وعليه، ولا تعرف غير مذاق البن اليمني المنعش الأصيل!

وعندما صاح صالح في بدء انتفاضته: كفى ما جرى لليمن، كان يريد أن يقول إن عاصمة بلاده لن تُبدل جلدها، ولن تقبل بغير عربيتها التي تتكلمها منذ عُرفت اللغات. لن تتكلم لغةً أخرى، وإنْ حاول الحوثي، وحاول. لن تتكلم غير اللغة التي تفهمها، وتعرف كيف تُعبر عن نفسها جيداً بحروفها!

ولو يذكر الحوثيون، فإنهم وقت أن كانوا في صعدة يعيشون كما يعيش سواهم من اليمنيين، لم يكن ليمني واحد معهم مشكلة، لأن صعدة يمنية، ولأنهم يمنيون، ولأن مبدأ المواطنة يظل هو المبدأ الحاكم في مثل هذه الحالة؛ مبدأ أن الحوثي مواطن يمني كامل الحقوق ما دام ولاؤه لبلده، لا لبلد آخر. هو سواء مع أي يمني سواه، ما بقيت عينه على صنعاء كعاصمة لوطنه، لا على طهران كعاصمة بديلة، أو تريد أن تكون بديلة!

هو كذلك ما دام قلبه مُعلّقاً بأرض بلده، لا بأرض بعيدة عنها. وهو كذلك ما دام وجدانه ممتلئاً بيمنيته، لا بجنسية غيرها. وهو كذلك ما دام هواه يمنياً، لم يتبدل!

إنني أتصور صنعاء تخاطب جماعة الحوثي باكية، وتقول: لم يحدث من قبل أن خُنت هوايا، فلماذا يخونني بعض أبنائي، أو الذين أفترض أنهم أبنائي؟! ولم يحدث أن تغيّر لون وجهي الذي تعرفني به شتى العواصم، فلماذا تريدونني أن أتزيا برداء ليس لي، ولا يليق بي، ولا يوافق هواي؟! لم يحدث أن غيرتُ بوصلتي في أي مرحلة من مراحل حياتي، فلماذا ترغبون في أن أعمل على بوصلة ليست على خريطة جسدي وعقلي؟!

ولن تجد صنعاء حوثياً واحداً يجيبها عن تساؤلاتها الحائرة، ليس لأنه لا يملك جواباً، ولكن لأنه لا يعرف بماذا، ولا كيف يُجيب. لا يعرف بماذا يجيب، لأن ما عنده من جواب لا يُقره عليه مواطن يمني صادق اليمنية. ولا يعرف كيف لأنه لم يتوقع أن تُسائله عاصمته يوماً بهذه الصراحة، ولا أن تواجهه أمام الناس على هذه الدرجة من العلانية!

صنعاء التي عاش راغبوها يتغنون بأنها لا بد منها، وإنْ طال بهم السفر. صنعاء هذه لن تُخلف موعدها معهم، ولن تكون إلا نفسها!