شئنا أم أبيْنا أوضاعنا الاقتصادية متردية وأوضاعنا المالية التي واجهت تحديات عدة باتت تدعو الى مزيد من الاهتمام، ومن الاسباب الملحة للانتظام والاهتمام العقوبات الاميركية المجترحة على أعضاء ومناصرين وربما مشاركين في “حزب الله” في شركات متنوعة.
بداية لا بد من التأكيد ان هذه الاجراءات الاميركية وكثيراً غيرها، ومنها معاقبة مصارف أجنبية عدة على تعاملها مع ايران أو تأخير الافصاح عن حسابات لأميركيين، كانت في غالب الاحيان متجاوزة للمبادئ القانونية والاعراف الدولية.
لا يتوقف الاميركيون عند الاعتبارات المشار إليها ولا يحاسبون مؤسساتهم على الشطط وتآكل حقوق المودعين والمستثمرين، وها هو برني ساندرز سناتور ولاية فيرمونت الصغيرة والجميلة التي تحتضن الثلوج والكليات المميزة، يتنافس مع هيلاري كلينتون في الانتخابات التمهيدية لاختيار مرشح الديموقراطيين للانتخابات الرئاسية الاميركية.
لا شك في شأن أفكار برني ساندرز ومواقفه انسانية وتقدمية، فهو مثلاً يوصي بمجانية التعليم الجامعي وتوسيع الضمانات الصحية والمنافع الاجتماعية، ومع ابتعاد الاميركيين عن النفس الاشتراكي لمصلحة الانتساب الى الرأسمالية المتفلتة، لم نقرأ انتقاداً يتهم ساندرز بالعودة الى مبادئ الاشتراكية المغرقة في اليسارية.
من مطالب برني ساندرز العودة الى القانون الذي يمنع الدمج بين الاعمال المصرفية التجارية وأعمال المصارف الاستثمارية، أي المصارف التي تقدم التوصيات الى زبائنها بشراء السندات أو الأسهم أو السلع بناء على دراسات حقلية تقوم بها دوائر المصرف المعني، وهو أيضاً يطالب بحصر منافع كبار مديري المصارف من المنح السنوية التي تجاوزت عشرات الملايين من الدولارات في حالات متعددة ومختلفة.
الخطوات التي يدعو ساندرز الى اعتمادها، اذا تحققت، تبعد الولايات المتحدة عن فرض شروط مالية مصرفية على بلدان اخرى لا تفرضها على مواطنيها. ومن أجل اعطاء صورة عما نقول، نشير الى ان موظفة في بنك نيويورك تولت تبييض 8٫5 مليارات دولار لحساب زبون روسي، وهي من أصل روسي وكان ذلك منذ أكثر من عشر سنين، فكانت النتيجة انها عوقبت بالصرف ودفع غرامة مقدارها مليون دولار، في حين انها حظيت بمكافآت تجاوزت العشرة ملايين دولار على عملها.
تبدو ملامح معاملة اخرى اسوأ بكثير من وقائع تبييض الاموال على مستوى 8٫5 مليارات دولار، فقد بيَّض أحد المصارف الأميركية الكبرى عشرات المليارات من الدولارات لحساب عصابات ميرلين الكولومبية ولم ترف أعين المراقبين الحكوميين، ولم تفرض عقوبات على المصرف المعني.
نعود الى وضعنا في لبنان والغيمة السوداء التي نشرها الاميركيون فوق التعامل المصرفي، ذلك ان العديد من اللبنانيين العاملين بكد ونجاح في البلدان الافريقية ممن يسهمون في سدّ فجوة حسابات ميزان المدفوعات يحولون أموالاً نقدية الى لبنان، يمكن الاميركيين ان يصنفوها أموالاً قد تمول الارهاب، وليس هنالك من يحاسب الاميركيين على اتهاماتهم، وقد شهدنا اتهاماً لمصرف رئيسي فرض على ادارته دمجه مع مصرف آخر ودفع غرامات للأميركيين على مستوى 100 مليون دولار، وظهر من بعد ان الاتهام ليس في محله.
نحن نرى ان الاتهام من دون برهان لا يجوز ان يطرح في الاعلام ويسهم في خراب مؤسسات كبيرة، فان كان هنالك من اتهام، فينبغي ان يوجه بسرية مطلقة الى اجهزة مصرف لبنان، التي تستطيع تحري الامور وتقويم صحة أو خطأ الاتهام، فان كان صحيحاً تتخذ اجراءات هادئة لا تسبب ارتجاجاً في السوق أو احراجاً للمصارف ككل.
اننا نعلم ان هذا الموقف المهني لا يتقبله الاميركيون، وربما حتى يخشى القسم الأكبر من المصارف تقبله، وهنا لا بد لي من الادلاء برأي رددته مراراً دون جدوى، ألا وهو ان التصنيفات التي تنجزها مؤسسات التصنيف الدولية والمؤسسات الثلاث المعروفة “ستاندارد اند بورز”، “فيتش ابكا”، و”موديز” أميركية لا تفيد عن حقيقة أوضاع المؤسسات أو الدول التي تمنحها هذه الشركات نجوماً، تبيّن التميز او الاخفاق، والتشجيع على الاستثمار في المؤسسات والدول المعنية او الاحجام عن ذلك.
خلال شهر ايلول 2008 منحت شركة “ستاندارد أند بورز” وشركة “موديز” مصرف ليمان براذرز ثلاث نجوم، أي أفضل تصنيف ممكن، والتقويم ذاته توافر لشركة مجموعة التأمين الاميركية AIG. وفي غضون 10 ايام ظهر ان التصنيف خاطئ وان المؤسستين تشارفان الافلاس، وقد سمحت السلطات الاميركية بافلاس مصرف “ليمان براذرز”، وكانت ميزانيته تبلغ 640 مليار دولار، وحتى تاريخه أي بعد سبع سنوات على الافلاس لم يتوافر من التفليسة سوى 100 مليون دولار، يبقى منها للمودعين والمستثمرين أقل من 60 مليونًا بعد حسم اكلاف مكاتب المحاماة والتدقيق التي كُلّفت النظر في حسابات المصرف. بكلام آخر، بعد سبع سنوات ما سيتوافر يبلغ تسعة في المئة من أصل الودائع والاستثمارات.
ربما شركة التأمين الاميركية انقذت بضخ 80 مليار دولار من المصرف المركزي الاميركي، ومن بعد ظهر ان هذا المبلغ لن يغطي الالتزامات، فوفرت السلطات الاميركية من مؤسسات متعددة 100 مليار دولار أخرى، فأنقذت الشركة واستعادت الدولة أموالها.
الأمر المهم من مراجعة هذين المثلين الاشارة الى ان برنانكي حاكم المصرف المركزي الاميركي بين 2006 و2014، أي طوال دورتين، بيَّن في كتابه “شجاعة القرار” The Courage To Act الذي صدر عام 2015 ان مؤسسات التصنيف لم تكن قط تنجز تقويماتها على أسس علمية وبنزاهة، بل هي كانت تصنف في ضوء الاجور التي تتقاضاها من المؤسسات التي يجري تصنيفها، وتالياً فإن نزاهة التقويم لم تكن متوافرة أصلاً.
لقد رددنا هذا الادعاء مرات عدة من غير ان نسمع تعليقات مؤيدة، بل كان منهج المعنيين الابتعاد عن الشر والتزام الصمت، واليوم نحن مجبرون على الصمت أمام تحذيرات اميركية قد لا تتصل بالحقيقة بنسبة خمس في المئة، فهل نتحمل عبئًا جديدًا اضافيًا على ميزانيات المصارف التي باتت أصلاً تنوء بالأعباء وتعاني تدنّي الارباح؟!