مع بدء سريان العقوبات الأميركية أمس على الدول التي كانت استثنيت منها في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي على استيراد النفط الإيراني ينتظر أن يترك الإصرار الأميركي على لي ذراع طهران في المنطقة آثاره على دول أخرى تضاف إلى الدول الثماني هذه.
أبرز هذه الدول هي سورية والعراق وتركيا ولبنان، التي تتأثر بتصعيد الحصار على حكام طهران وسط شرنقة من التعقيدات السياسية التي تتحكم بالعلاقة بين كل من هذه الدول وبين إيران إيجابا وسلبا. فعلى كل من هذه الدول الاختيار بين التناغم مع ضغوط إدارة الرئيس دونالد ترامب، وبين الاصطدام بالإصرار الأميركي على تقليم أظافر “الحرس الثوري” الإيراني في الإقليم، من ضمن الهدف الاستراتيجي الذي وضعته واشنطن بوقف ما تسميه “وقف زعزعة طهران لاستقرار المنطقة” الذي يقوم به “الحرس” بتمدده المباشر في عدد من الدول وعبر أذرعه التي بناها على مدى أكثر من 3 عقود.
وإذا كانت تركيا اختارت الاستعاضة عن النفط الإيراني بالنفط العراقي نتيجة المخرج الذي ساعدتها إدارة ترامب على اللجوء إليه، فإن الدول الثلاث الأخرى ليست في وضع تحسد عليه إذا كانت تسعى إلى تجنب العقوبات. والواضح أن أنقرة هي أقل الدول الخاضعة لتعقيدات العلاقة مع طهران لأنها كدولة محورية ذات حكم مركزي في المنطقة، هي الأكثر استقلالية وابتعادا عن تدخلات “الحرس” فإن سورية والعراق ولبنان لا تحسد على الموقع الذي وضعتها العقوبات فيه.
في العراق أدى تنامي النقمة على إفادة طهران من العلاقة الاقتصادية إلى تصاعد الشعور بالحاجة إلى أخذ مسافة عنها، بعد أن تسلل إلى الجمهور الشيعي العريض شعور بأن إيران “نهبت العراق”. وبات على حكومة بغداد أن تنفتح على العديد من الدول العربية ولا سيما الخليجية استجابة لحاجات مجتمع أفقره الالتحاق بالنفوذ الإيراني، على رغم استمرار الدور الأميركي في إدارة التعقيدات الطائفية والمناطقية التي تتحكم فيه. بات مطلب انسحاب القوات الأجنبية من العراق الشعار الذي تختفي وراءه الرغبة في التخلص من هيمنة “الحرس” على الأكثرية الشيعية. لكن العراق سيبقى تحت المجهر للحؤول دون أن تتحول حدوده مع إيران إلى مسرب لخرق العقوبات عبر أراضيه وصولا إلى سورية… ومصير علاقاته مع محيطه العربي كذلك.
لا يختلف إثنان بأن دمشق أكثر الدول المتأثرة بمفاعيل التصعيد الأخير في العقوبات. فحكام دمشق التحقوا بالكامل بطهران وبات هدف تجريد الأخيرة من النفوذ والسيطرة على القرار السياسي في عاصمة الأمويين، مركزيا في عملية تقليم أظافر “الحرس” الإقليمية. وصار انسحاب إيران من سورية مطلبا رئيسا، بحيث امتد الحصار الأميركي على إيران إلى بلاد الشام على رغم أن تراجع العمليات العسكرية فيها أفضى إلى تثبيت بشار الأسد في الحكم، ولو موقتا. إلا أن الأسد ومؤيديه يدفعون ثمن الالتحاق بطهران، فيجري إخضاع مناطق سيطرته لحصار أشد إيلاما من ذلك الذي تتعرض له إيران. ويحول الصراع الإيراني الروسي على النفوذ في سورية، والتفاهمات بين فلاديمير بوتين وبنيامين نتانياهو، دون إفادة النظام السوري من حماية موسكو لمنافذ الالتفاف على الحصار، إلا بما يخدم المصالح الروسية في الفسيفساء الاجتماعية السورية الموزعة الولاءات. ثمن الالتحاق بالسياسة الإيرانية يقود الكثير من الشرائح السورية إلى الانفكاك عن النظام، الأمر الذي يؤرق رئيسه إلى درجة لم يسبق لها مثيل.
أما في لبنان الذي ينطبق عليه قانون الأواني المستطرقة، فإن تدهور الوضع الاقتصادي للبلد يضع ذراع “الحرس” في موقع شديد الصعوبة، إذا أراد “حزب الله” استخدام نفوذه للالتفاف على العقوبات. فالحزب أخذ على نفسه مساندة طهران والتضامن معها في مواجهة العقوبات، في ظل السياسة المزدوجة القائمة أولا على حفظ قدر من الاستقرار في البلد ليبقى دور الحزب احتياطيا عسكريا وأمنيا لمصلحة راعيه الإقليمي، وثانيا على ضمان الإمساك بالقرار السياسي لحماية هذا الدور بعدما اطمأن إلى تأثيره في موقع رئاسة الجمهورية. ازدواج السياسة لا يحول دون تخبط الحزب بين المتناقضات. فهو مع إجراءات تنقذ الاقتصاد من التدهور لأنه يصيب جمهوره الناقم مثل غيره على الطبقة السياسية التي بات منها، مهما حاول التمايز، ويسعى لتجنب العقوبات التي أصابت مداخيله المالية فيرعى التهريب المضر بالخزينة… ولا يبرئه جمهوره من اتهامه بالفساد أو حمايته، خصوصا أن حلفاء له هم أبطاله، ويحتاج إليهم لتغطية دوره الإقليمي، بعدما ساهمت سياساته التعطيلية بغرض لسيطرة على القرار لمصلحة الأهداف الإيرانية، في التدهور الاقتصادي وتفكك المؤسسات. كل ذلك يتناقض مع روحية مؤتمر “سيدر” لإنقاذ الاقتصاد.
يحتاج الحزب إلى مزيد من الإمساك بالقرار اللبناني ليطمئن ويصمد كقوة خارجة عن سيطرة الدولة، في زمن العقوبات، فيصطدم أكثر بمعادلة التوازن التقليدي التي تحكم لبنان، المُمانِعة في العمق للهيمنة. وصدامه مع رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط أول الغيث.