IMLebanon

العقوبات على إيران .. والطريق إلى التفاوض والترسيم

 

جربت إدارة ترامب عقوباتها المشددة على نظام بيونغ يانغ قبل ان تطبقها على طهران. وبنجاحها هناك تستطيع الإدارة الأميركية، بكل عناصرها، أن تتوحّد خلف مقولة ترامب التي يرددها عندما يتحدث عن إيران: «الإيرانيون سيأتون للتفاوض معنا».

 

 

وبالتوازي مع المكابرة التي تتبعها القيادة الإيرانية تجاه تأثير العقوبات، ومحاولة التقليل من مفاعيلها على نظام خامنئي، فإن هناك جولة من النزاعات أو العراضات التي كانت ولا تزال محتدمة في بعض دول المنطقة قبل المباشرة في التفاوض بين ترامب والإيرانيين، إذ تعمل إيران على إبراز امتيازاتها ومكتسباتها التي تشكل بحد ذاتها مضامين للتفاوض لطالما أن ترامب، وبعكس سلفه أوباما، حدد التدخل الإقليمي في المنطقة مادة للتفاوض والنقاش.

 

طبعاً الشروع بالتفاوض لا يعني انصياع الحرس الثوري لشروط ترامب منذ اليوم الأول، إذ باستطاعة إيران اللعب على الوتر الذي قد يُرضي ترامب إذا تعلق الأمر بإبرام صفقة بالحد الذي تقنَع بها إسرائيل وتخرج بها الولايات المتحدة وكأنها حققت إنجازاً لحلفائها الإقليميين مع بعض التلطيفات المتعلقة بالبرنامج الصاروخي وحرية عمل خبراء وكالة الطاقة الذرية في المواقع النووية بإيران. وقد يستدعي ذلك عملية تفاوضية تستهلك الفترة الرئاسية الأولى لترامب بعد انقضاء نصفها الأول في الطريق إلى تشديد العقوبات لا أكثر. تأكيد الأميركيين بأنهم لا يهدفون إلى إسقاط النظام يأتي في سياق ضبط التصرفات الإيرانية دون إعطاء الأرجحية لخصوم إيران في المنطقة لحسم الأمور أو تعبئة الفراغ، وهذا ما تعززه المساكنة بين الأميركيين والروس في سوريا والتي ذهبت إلى حد اعتراف الولايات المتحدة بالوجود الروسي المستدام في سوريا، والاطلاع بدورها كضابط ومدير للتفاهمات التي يتم التوصل إليها. وذلك يشي أيضاً بأن لا انقلابات دراماتيكية في كل ملفات المنطقة في حال سارت الأمور تحت هذه المظلة الثنائية.

 

وعلى هذا الأساس تُجري إيران مفاضلة في التصعيد بين ساحة وأخرى. ففي حين يشهد الجنوب السوري هدوءاً ترعاه روسيا ويحد من حركتها المباشرة في الضغط على إسرائيل، يتقدم لبنان كعنوان رئيسي في هذه المرحلة وهو لا يزال يحتفظ بمخزونه الاستراتيجي الواقع في الحساب الإيراني بشكل مباشر.

 

وحيث أفضى الاتفاق النووي الذي أبرمه أوباما مع إيران عام 2015 إلى نتائج كارثية على لبنان صبت في الحساب السياسي لإيران، إذ عطّل حلفاؤها انتخابات رئاسة الجمهورية إلى أن وصل المرشح الذي يدعمونه، وحصلوا على قانون انتخابات أمنوا من خلاله أكثرية في البرلمان واخترقوا بالنظام النسبي ساحات خصومهم التقليديين والسنة بشكل خاص، واليوم يطمحون لترجمة كل هذه المكتسبات في عملية تشكيل الحكومة التي يجاهر حزب الله في قدرته على رسم ملامحها الأساسية وامتلاك الكلمة الفصل في تشكيلها. طبعاً كل هذه المكتسبات الإيرانية كسرت التوازن الذي أمنه اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية وقضت عليه بالجوهر ولو أنه من حيث الشكل لا يزال موجوداً.

 

وبالتالي فبقدر ما تستجدي إيران إطالة أمد التأثير الذي تمارسه في دول المنطقة بعد تقدمها الميداني، فإنها تمتلك إمكانية انتقال هذا التأثير إلى المستوى المجتمعي جراء جملة إجراءات نفذتها خلال الفترة الماضية وأثبتت نجاعتها في إيجاد بيئة موالية لها مستفيدة من السطوة العسكرية وهي تمتلك، بالحد الأدنى، القدرة على التعطيل.

 

هذا النموذج يتقدم في لبنان والعراق مستنداً إلى معطيات داخلية قادرة على استدامة النفوذ الإيراني بطريقة أو بأُخرى. وإذا توافق هذا المنحى مع ما تؤكده الولايات المتحدة على الدوام في سوريا حول أن الشعب السوري هو الذي يقرر مَن سيحكمه، رغم كل الفظائع التي ارتكبها الأسد بحق شعبه وشعوب الجوار، وإسقاط هذه النظرية على لبنان والعراق واليمن، حينها نصبح أمام لعبة لا غالب ولامغلوب على الطريقة اللبنانية لكن هذه المرة في ظل دول منهارة ومحطمة وفي ظل تهشّم مجتمعي ومذهبية فاقعة أجّجتها إيران إلى أبعد الحدود.

 

طبعاً إيران التي تواجه العقوبات التي قد تصل إلى منعها تماماً من تصدير النفط بعد انقضاء فترة ال6 أشهر التي تستثني بعض الدول من الالتزام الفوري، كانت استنفذت قدراتها الإقليمية إلى حد بعيد واستخدمت طاقتها القصوى في التمدد والهيمنة، مستفيدة من وجود باراك أوباما في رئاسة الولايات المتحدة، وبفقدانها هذا الشريك الاستراتيجي ربما تقنع بالانتقال إلى ترسيم خرائط النفوذ في المنطقة بالشكل الذي يضمن مصالح حلفائها الإقليميين. وسوريا لن تكون بعيدة عن هذه المقاربة، إذ رغم إمساك روسيا المُحكم في الموضوع السوري، إلا أن المشكلة اليوم تكمن في الوجود الإيراني هناك. والصراع ينتقل إلى مستوى آخر بعدما أدلى السوريون بدلوهم في الشأن الداخلي بشكل استنفذ طاقة المعارضة والنظام على حد سواء وأبعدهما عن القدرة على التقرير. ومكّن إيران من أن تمتلك الكلمة الفصل في التحكم بمسألتي عودة اللاجئين وإعادة الإعمار بعدما عجزت المبادرة الروسية عن الولوج إلى الملف الديمغرافي الجاري تنفيذ مندرجاته في وسط سوريا.

 

ولإيران خيارات إضافية تقودها إلى توظيف نفوذها في دول المنطقة بهدف ترتيب وسائل صمودها أمام العقوبات، وربما نشهد توطئة لهجرة معاكسة للأموال والعملة الصعبة من العراق وسوريا ولبنان باتجاه طهران، خاصة بعد تراجع أسعار النفط في السوق العالمية التي تقضي على الجدوى من تعويض الكميات المهرّبة.

 

رهان ترامب على مجيء الإيرانيين إلى طاولة المفاوضات لا يأتي من فراغ، إذ أن الحلم الأميركي في استعادة إيران الدور الذي لعبته في التوازن الاستراتيجي الأسيوي كحاجز أمام النفوذ السوفييتي إلى الشرق، وكعمق يصل بين تركيا وأفغانستان، يدعمه يقين دائم لدى الغرب بأن الظاهر الإيديولوجي في التشدد الإيراني إنما يقوم أساساً على باطن براغماتي يذهب إلى حدود بعيدة في قراء المصالح الخاصة بإيران، وفي التودّد للغرب والإلتزام بعدم معاكسة أجندته.