حتى الآن، العودة السعودية إلى لبنان مخيّبة لآمال من كانوا ينتظرونها بفارغ الصبر عشيّة الاستحقاق. حلفاء المملكة اليوم أمام «سعودية جديدة» لا تنفق بلا حساب، وتقرن الدفع بالقدرة على «الإنجاز». وحده سمير جعجع خارج هذه المعادلة
في زيارته الأخيرة لباريس الشهر الماضي، قبلَ الإعلان عن عدم ترشّحه إلى الانتخابات النيابية، كان الرئيس فؤاد السنيورة حريصاً على تأمين المتطلبات المالية لأي معركة انتخابية. لذا، حمل معه «ميزانية ضخمة» عرضها على ضابط سعودي يعمل في فريق رئيس المخابرات السعودية اللواء خالد الحميدان. لم يخف المضيف السعودي انزعاجه من الأرقام التي وضعت أمامه، وهو انزعاج سرعان ما انتقل الى بقية المعنيين السعوديين بالملف اللبناني.
بدت ساعة السنيورة متوقفة عند زمن مضى، عندما كانت السعودية «خزنة» مفتوحة تُغرف منها الأموال بلا نقاش. بعدَ عودته، نقل «أصدقاء مشتركون» للسنيورة رسالة ــــ نصيحة بأن يُبقي قدميه على الأرض ويعدّل في أرقامه. فـ«السعوديون الجُدد» يعرفون حصته وحصة غيره من «المغانِم» السعودية منذ عام 2005، ويسألون لماذا لا يبادر هو وغيره من القيادات اللبنانية الى إنفاق بعض ما جمعوه على الانتخابات؟ رغم استيائه، رضخَ رئيس الحكومة السابق، واضطر الى وضع «حِسبة جديدة».
قد يكون السنيورة يريد مواجهة «حزب الله» وخوض الانتخابات تحتَ هذا العنوان، وعدم ترك الساحة السنية مفتوحة لأي وريث من خارجها بعد انسحاب سعد الحريري… لكن ذلك لا يعني بالضرورة أنه سيُحقق «نصراً». هذا بالتحديد ما تتصرف السعودية بناءً عليه، فهي لن تفتَح حنفيتها لتُجرّب «مجرّباً». لذا قررت أن تضع خطة عمل لكل طرف أو شخص، بحسب دوره وحجمه وإمكاناته الحقيقية، وإذا كانت هناك مؤشرات جدية على القدرة على تحقيق «إنجاز»… تصِل ورقة اليانصيب!
ليسَ فؤاد السنيورة وحده الموعود والمنتظِر. معه، أيضاً، كلّ الماضين في إجراءات الانبطاح أمام السفير السعودي في بيروت وليد البخاري، رغم أن المعطيات التي لمسوها بعد عودة الأخير إلى بيروت كانت، حتى الآن، مخيّبة لآمالهم. الواضح، حتى الآن أيضاً، أن السفير مهتم شخصياً بالعودة الى الأضواء، وأن في جعبته القليل من المواقف… والقليل من المال أيضاً. وقد تبيّن لكثيرين في بيروت أن الإدارة المالية للمملكة، وليس السياسية فقط، تغيّرت أيضاً. لا صناديق أموال ولا «حنفيات» مفتوحة ولا شراء «سمك في الماء»… بل على «الميزان». مصادر مطّلعة أكّدت لـ«الأخبار» أن عودة البخاري سبقها تشكيل فريق داخل السفارة مهمته، حصراً، وضع دراسة مالية للانتخابات، ورصد المرشحين وكلفة كل منهم «عالقدّ»، فيما لم يصل حتّى اللحظة «قرش واحد» من الميزانية غير المعروفة. وحده رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع تصِله «معونة» كل فترة لتمويل حملاته مباشرة، وإدارة ماكينات حلفاء له وخصوصاً في عكار وطرابلس. أما الباقون فلَم يروا شيئاً بعد، بمن فيهم وليد جنبلاط الذي وُعدَ بمساعدة «لم تصِله حتى الآن». الثابت ــــ غير ما يُدفع لجعجع ــــ أن السعوديين سينفقون ما اتفق عليه ولي العهد محمد بن سلمان والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كمساعدات (ما عُرِف بالصندوق الفرنسي ــــ السعودي)، ستصل الى جمعيات ومؤسسات طبية واجتماعية، ولن تتجاوز قيمتها ٣٦ مليون دولار.
مقولة «المكتوب يُقرأ من عنوانه» تنطبِق على موائد الإفطارات التي أقامها البخاري ويقيمها لمسؤولين سياسيين وأمنيين تأكّدوا خلالها بأن لا عودة سعودية بـ«شكلها القديم». ضيوف السفير يؤكدون أنه لا يأتي على ذكر الانتخابات، بل يتحدث عن الوضع اللبناني عموماً. وقد بات شبه محسوم لديهم، مع تأكيدات من قيادات سابقة في فريق 14 آذار، ثلاثة أمور: 1) لن تتبنى المملكة أشخاصاً بل توجّهاً عاماً؛ 2) وهي ستنتظر ما ستُفرزه الانتخابات من نتائج وتقرر على أساسها؛ 3) وتريد الرياض أن يخسر حزب الله وحلفاؤه مقاعد نيابية، لكنها لن تقدّم بل سترصد من يستطيع أن يقدّم لها.
مسؤولون سابقون في هذا الفريق، ممّن عايشوا الفترة الماضية من «الإدارة السعودية» بتفاصيلها وكانوا على تماس مباشر مع المسؤولين في الرياض، يؤكّدون الفصل بين السعوديين «الجدد» و«القدامى». صحيح أن مشروع ضرب حزب الله لم يتغيّر، بحسب هؤلاء، لكن النهج في المملكة تغيّر. بين ٢٠٠٥ و٢٠٠٩ (وهي الفترة الأكثر بحبوحة بالنسبة إلى حلفاء الرياض)، اغتيل رفيق الحريري وكان هناك مشروعان كبيران في البلد (٨ و١٤ آذار) وعدوان إسرائيلي في 2006 وأحداث أخرى. استدعت تلك المرحلة الزاخرة بالأحداث صرف الأموال عشوائياً، ومن دون استثناء أي شخصية تنضوي في المشروع السعودي ــــ الأميركي، مهما ثقل وزنها أو خفّ. كان يكفي أن يشتم أيٌّ كان حزب الله وسوريا وإيران حتى يقال عنه «ريّال»، وينال حصته حتى ولو كان بلا أي تأثير، على شاكلة نديم قطيش وعقاب صقر! سابقاً، احتكرت قريطم (ثم بيت الوسط) الصندوق المالي السعودي، وتولّت توزيع الحصص على «السياديين» أفراداً وجماعات ومؤسسات وأحزاباً، بمن فيهم جعجع الذي كان ينال حصته عبر سعد الحريري، باستثناء جنبلاط الذي حظِي بخط مباشر! أما اليوم، فتعتمد المملكة «اللامركزية المالية»: عندما تقرر تمويل لائحة أو مرشح سيكون ذلك بشكل مباشر ومحدود جداً… لكن لا دعم شاملاً.
مُشكلة حلفاء المملكة أنّ في الرياض اليوم فريقاً لا يعنيه هذا البلد بتركيبته وليسَت لديه الحنكة اللازمة للعمل في ساحة معقّدة كالساحة اللبنانية
مُشكلة من يعتبرون أنفسهم حلفاء المملكة أن في الرياض اليوم فريقاً يعرِف لبنان بطريقة مختلفة، ولا يعنيه هذا البلد بتركيبته وزواريبه، وليست لديه الحنكة السياسية اللازمة للعمل في ساحة معقدة كالساحة اللبنانية. العاملان الأبرز اللذان ساهما في تغيير الإدارة السعودية للملف اللبناني، بشقيه السياسي والمالي، هما اقتناع القيادة الجديدة أولاً بأن اللبنانيين «نصبوا» الأموال السعودية ولم يحققوا المطلوب منهم، وثانياً زيادة النقمة على من فشلوا في مواجهة جزب الله بعد حرب اليمن التي جعلت من كل الملف اللبناني تفصيلاً.
لذلك، وباستثناء كلام عن مال سعودي محدود جداً، أكد أكثر من مصدر أن السفير لم يفتح حقائبه بعد، لا لأحزاب وتيارات وأشخاص، ولا حتى لمؤسسات كـ«المقاصد» مثلاً، ما يجعل الآمال بالانفراج تتبدّد يوماً بعد آخر. لكن هذا كله لا ينفي الحراك السعودي التحريضي ضد حزب الله، والذي تتولاه وسائل الإعلام المموّلة من بلاده.
معاملة مميزة لجعجع
علمت «الأخبار» أن معراب ستقيم غداً مأدبة إفطار على شرف عدد من السفراء العرب لـ«تعريفهم على المرشحين المسلمين على لوائحها». ويتقدّم هؤلاء السفير السعودي وليد البخاري الذي تشكو شخصيات في فريق 14 آذار من «معاملة مميزة» يوليها لرئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع. وينقل هؤلاء عن مسؤولين سعوديين لا تزال تربطهم علاقات بهم تأكيدات بأن «معراب تتلقى تمويلاً انتخابياً»، وأن «السعوديين هم من عملوا على نسج تحالفات بين قوى سنية وجعجع كما حصل في دائرة الشمال الثانية مع اللواء أشرف ريفي».
انزعاج دبلوماسي من البخاري
تردّدت معلومات أن عدداً من الدبلوماسيين العرب عبّروا عن انزعاجهم من السفير السعودي وليد البخاري بعد الإفطار الذي جمع القوى الحليفة للرياض في دارة السفير في اليرزة الأسبوع الماضي، وخصوصاً أن البخاري تقصّد عقد خلوة جمعته مع السفيرتين الأميركية دوروثي شيا والفرنسية آن غريو على هامش الإفطار. ونُقل عن سفراء في جلسات مغلقة قولهم إن «العودة العربية الى لبنان جرى الاتفاق عليها ولا يجب أن يظهر وكأن البخاري يتحرك وفق مسار مستقل عن هذا الاتفاق».