كان الذي خفت أن يكون. هكذا إذاً يجد لبنان نفسه وحيداً الآن، فقد استنفدنا كل صبر العرب على خلفية تفهّم خصوصية وضعنا اللبناني وأن لبنان وشعبه ليسوا سوى أسرى ورهائن في قبضة حزب الله، فمن يملك القوة والبأس بيده القرار وبمقدوره سوق البلاد بأسرها بالاتجاه الذي يريد، فالدويلة قد أكلت الدولة. وهذا هو بصدق واقع الحال.
هذا ما كان يؤرق الرئيس ميشال سليمان الذي أدرك بثاقب بصره يومها أننا في حال استمرار وضعنا اللبناني على هذا المنوال فإننا والحالة هذه سائرون حتماً باتجاه أزمة خطيرة سوف تطاول جميع اللبنانيين، بدءاً بالمهاجر وانتهاء بالمقيمين من أهله المغلوبين على أمرهم. حاول اجتذاب حزب الله للتوقيع على إعلان بعبدا الذي نصّ على تحييد لبنان عن أزمات المنطقة التي لم تكن بعد قد أخذت هذا المنحى الدولي الشامل. فلم يتوان «الحزب» على التوقيع، في الوقت الذي كان يرسل مقاتليه إلى سوريا تحت وابل من الصخب الإعلامي والزعاق الداعي وبالفم الملآن لنصرة بشار الأسد ونظامه على قاعدة مساندة المقاومة والممانعة ومواجهة الإرهاب إلخ… وكان ذلك يجري أمام سمع وبصر جميع اللبنانيين الذين يدركون حتى البسطاء منهم أن ثمة ازدواجية مهينة يتقنها حزب الله عندما يقول شيئاً ويمارس في المقابل أشياء وأشياء. فالاستخفاف بالرأي العام عندنا والتلاعب بعقول اللبنانيين والمقامرة بمصالحهم وأرزاقهم ومستقبل أولادهم ليست شأناً مهماً لديه إذا قيست بالاستحقاق الكبير ألا وهو إنقاذ الأسد قبل فوات الأوان بما له علاقة بالمشروع الإيراني وولاية الفقيه.
كانت الديبلوماسية السعودية العريقة بخبراتها الطويلة وإحاطتها العميقة بهموم لبنان ومتاعبه الداخلية، هي التي تعمد لتحييد لبنان في المحافل الدولية والعربية ضناً منها بشعبه ومصالح أبنائه الساعين في دنيا العرب وراء الرزق الحلال. وكانت على الدوام تتحاشى وتتغاضى عن ذكر الوطن الصغير في حمأة بدايات المواجهة مع المشروع الإيراني المندفع نحو البحرين المتوسط والأحمر. فالنظام الملالي في طهران كان يعد لمنطقتنا العربية سلسلة متواصلة من المتاعب والأزمات. فقد أخلى له الاحتلال الأميركي الساحة في العراق، وبرزت أنيابه في سوريا عندما استحضر إليها ما استطاع من ميليشيات مذهبية. وكان الصوت اللبناني حيال الذي يجري إما ممالئاً لنظام الأسد أو يلوذ بصمت مشبوه حتى وجد ضالته في الفرصة الذهبية التي قدمها له إرهاب داعش ومشاركوه عندما حاول القيام بعمليات ثأرية على أرضنا استهدفت جيشنا الوطني الذي بدا بحاجة ماسة لأسلحة نوعية.
مع تصاعد الأجندة الإيرانية ابتداء بالعراق ومروراً بسوريا ثم الضلوع في إثارة المتاعب وزعزعة الأمن ومحاولة تقويض الأنظمة في البحرين والكويت وزرع الخلايا الإرهابية في دول الإمارات قاطبة والتصريحات المتواترة أن بيروت نفسها قد أصبحت عاصمة ولاية إيرانية ظلت سياستنا الخارجية تتلخص في كوننا شاهد زور حيال هذه التطورات، فإذا كنا رهائن وأسرى لسياسة حزب الله فإذن ذلك لا يعني أنه بوسعنا على الدوام جرّ المملكة لاتخاذ المواقف المناسبة لواقعنا المزري.
بدت الخطة الذكية التي تم اللجوء إليها للالتفاف على بدعة الثالوث الذي يروّج له حزب الله في لبنان لتسويغ المزيد من سيطرته بسلاحه على لبنان هي الاستعانة بالدعم السعودي للجيش اللبناني فقدم هبة تفوق الأربعة مليارات من الدولارات لتزويده بالسلاح النوعي. إلا أن سياسة التعطيل والشغور والفراغ التي تطاول جميع المؤسسات وعلى رأسها رئاسة الجمهورية قد وجدت ترجمتها أيضاً في تسديد حزب الله ضربة موجعة للهبة السعودية للجيش اللبناني وتفشيلها، فقد كان قد أعد في سبيل تحقيق أغراضه ومراميه مضيه قدماً في الحملات الاعلامية المتواصلة على المملكة ونظامها وحكامها وسياستها الخارجية.
كانت المعلومات قد بدأت تشير الى امتعاض وتململ في صفوف القادة السعوديين حيال هذه الازدواجية اللبنانية المهينة عندما في آن معاً نجد انفسنا بحاجة ماسة للدعم السعودي للبنان، لكننا نطلق العنان للاتهامات ومقذع العبارات والشتائم بحق المملكة في غير مناسبة أو حشود جماهيرية بل نتخذ موقفاً ملتبساً او منحازاً صادراً عن وزير خارجتينا ضد الاجماع العربي، فقد ذهبنا في ذلك كل مذهب. فحزب الله متورط ايضاً في حرب اليمن منذ بداية الانقلاب الحوثي، ذلك ان الأجندة الايرانية للسيطرة على المنطقة العربية تعتبر الامساك بباب المندب وخليج عدن في صلب استراتيجيتها الاقليمية وهي تضع في حساباتها الاستعانة بآلة الحرب الروسية هناك لاستعادة ما فقدته في ساحات القتال بفعل التدخل العسكري العربي، خاصة عندما نرى ان الروس ابلوا بلاء حسناً في مناطق عدة من الساحة السورية المشتعلة (تصريح صادر عن نائب وزير خارجية ايران في 21 شباط/فبراير الحالي). فلم نفاجأ والحالة هذه بتصريح الرئيس اليمني هادي بأن السلطات اليمنية حتى عشية الانقلاب الحوثي كانت تعتقل عدداً من الحرس الايراني وحزب الله اللبناني.
لم يقل خطورة عن الموقف السعودي مسارعة دولة الامارات لتأييدها مما انعكس قلقاً بالغاً على الوضع اللبناني الاقتصادي والمالي والمعيشي عندما بدأت التساؤلات تتصاعد حول الخطوات التالية الممكنة الحدوث عندما يتعرض عشرات ألوف اللبنانيين العاملين في دول الخليج في شتى القطاعات للاستغناء عن خدماتهم هناك والترحيل لأسباب سياسية تتحمل فيه كامل المسؤولية سياسة حزب الله وحلفائه عندنا، خاصة ان ثمة سوابق لبعض اللبنانيين المتورطين هناك في أنشطة معادية للسلطات قد جرى فعلاً ترحيلهم.
المأزق الخطير الذي يجد لبنان نفسه فيه الآن متعدد الجوانب، بصرف النظر عن حرمان الجيش اللبناني من المساعدة او الهبة الضرورية له خاصة بعد استيلاء داعش على المواقع المتاخمة للحدود الشرقية مع سوريا واحتمال لجوئه لعمليات عسكرية ضدنا.
فمن جهة فانه من الصعب جدا ان نجد حزب الله عندنا ينصاع لرغبة اكثرية اللبنانيين بالتوقف مع حلفائه عن حملته الاعلامية ضد المملكة السعودية وزعمائها لأن ذلك يرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمشروع الايراني وهو جزء لا يتجزأ من المنظومة الايرانية وبالتالي هو ماض في انغماسه في الحرب السورية، خاصة بعد الدفع العسكري والمعنوي الذي تلقاه من الدعم العسكري الروسي لنظام الاسد. وحزب الله ممثل في الحكومة السلامية وكذلك حلفاؤه. فان ينتقل الضغط الذي اصاب قوى 14 آذار لداخل الحكومة فان ذلك حدوده معروفة سلفاً ولن تتعدى بأية حالة سوى صدور بيان حكومي يثني على الدور السعودي التاريخي في مساعدة لبنان اقتصادياً وسياسياً ومالياً.
ومن جهة ثانية فان استقالة وزير العدل اشرف ريفي لن تؤدي الى استقالة سائر وزراء قوى 14 آذار لأنه في حال حصولها فان ذلك سوف يؤدي الى الاحاطة بالحكومة. وفي الحال سوف تتعرض لمأزق دستوري خطير لأن الأسئلة المترتب علينا معرفة وادراك الاجابة عنها منذ الآن هي: لمن ستقدم الحكومة استقالتها ما دام هناك فراغ في سدة رئاسة الجمهورية؟ فهل تقدم استقالتها امام مجلس النواب؟
وفي حال حدوث ذلك من هي الجهة المخولة دستورياً لاجراء استشارات جديدة ملزمة وتكليف رئيس جديد؟
هل بقاء حكومة الضرورة القصوى وبصرف النظر عن تناقضاتها الضمنية، داخلها والمتاعب التي يثيرها في وجهها غير طرف مثل داخلها حاجة ماسة لتجنب الوقوع في الفراغ الشامل. فإن أصواتاً معروفة المصدر قد بدأت تتحدث عن عودة للدعوى لمؤتمر تأسيسي وعن تغيير النظام.
هنا يكمن موقع الخطر الداهم. لقد سبق ان جرى التحذير مراراً من هذه المخاطر التي تتعدى بكثير المآخذ على الخارجية للبنان بل حتى عن الشغور الرئاسي نفسه وهو فجوة كبيرة.
فهل مصير الجمهورية اللبنانية برمتها قد أصبح على المحك؟