IMLebanon

السفير السعودي على حقّ: فلتقف «الأخبار» عند حدّها

تجنّت هذه الجريدة (الصفراء) على السفير السعودي الموقّر، وتهجّمت عليه. هذا لا يجوز. على هذه الصحيفة وغيرها احترام المقامات الرفيعة خصوصاً عندما تصدر عن ممثّلين وناطقين وأبواق لنظام آل سعود المتنوّر والحازم. ماذا قال السفير العسيري كي يتراكم عليه الهجاء؟ كيف أزعج هذا السفير الذي لا ينفكّ صادقاً عن تكرار موقف المملكة الصادق والأمين من أنها على مسافة واحدة بين جميع الأطراف، بما فيها تلك التي تموّلها بالمال وتمدّها بالسلاح وتلك التي تحاربها بالمال والسلاح لأنها لا تنتمي مثلها إلى خندق العدوّ الإسرائيلي الذي بات يتسع للكثير من الحلفاء العرب اللاهثين.

لا، فلتسمح لنا جريدة «الأخبار». إن لمملكة آل سعود مكاناً مميّزاً في قلوب وكلى وبنكرياسات العرب الذين يتلقّون البركات لا المال من آل سعود. هل سيتنطّح أحدٌ منكم ومنكنّ للزعم ان وليد جنبلاط، مثلاً، أو ميشال سليمان، يتماشيان مع مصلحة وسياسات آل سعود بسبب المال؟ كلا، وألف كلا. الثروة والمال لا يعنيان شيئاً عند وليد جنبلاط وميشال سليمان. إن الرجلين، مثل صائب سلام الاستقلالي، ينفّذان مشيئة أمراء وملوك آل سعود بحكم المحبّة والتأمّل والليبراليّة التي لم يحرص عليها أحد من أيّام جون ستيورات ميل وجان جاك روسو أكثر من رعاة مهرجان «الجنادريّة».

ما قاله السفير السعودي عن جريدة «الأخبار» مُحقّ ومُنصف، لا بل متحفّظ. يجب على هذه الجريدة ان تتوقّف عن الإساءة إلى المشاعر السياسيّة والدينيّة لملوك وأمراء آل سعود، وهيئة كبار علماء الوهابيّة (مرشدو حركة الليبراليّة العربيّة وبعض يسارها المُتسربل بلباسها). من يظنّ كتاب هذه الجريدة أنفسهم وأنفسهنّ. كيف يتطاول أعداء لإسرائيل – الحليف المُخلص لآل سعود – على النظام السعودي وحروبه في المنطقة العربيّة؟ متى ترعوي القلّة القليلة التي تنتقد آل سعود؟ لماذا لا تلحق الجريدة بركب الليبراليّين واليساريّين واليمينيّين والإسلاميّين والإرهابيّين وباقي التشكيلات الإيديولوجيّة المتنوّعة التي تتلقّى أحسن رعاية وأفضل ضيافة من آل سعود؟ فليلحق كتّاب هذه الجريدة بركب المثقّفين والكتّاب العرب الذين يتقاطرون من كل حدب وصوب في مهرجان «الجنادريّة» الذي يجذب إليه الناس لاعتدال مناخه لا لماله. التكسّب في حضرة أمراء آل سعود ليس تكسّباً والانحناء لأمراء آل سعود ليس انحناء، بل هو الرفع والإباء. أجل وألف أجل.

ثم، على ماذا تنتقد «الأخبار» الحكم السعودي. على ماذا؟ وكيف ينسى هؤلاء أفعال الخير من قبل آل سعود نحو اللبنانيّين؟ ولماذا لا نتذكّر التحذيرات الحكيمة لكل فريق 14 آذار عن وضع اللبنانيّين في المملكة؟ اليس هؤلاء، مثل كل العاملين والعاملين العرب في مملكة آل سعود، رهائن ذليلين تستطيع الحكومة السعوديّة ان تطردهم من دون تعويضات كما فعلت مع مئات الآلاف من العمّال اليمنيّين عبر السنوات لمعاقبتهم على مواقف لحكومتهم لا تتوافق مع المشيئة السعوديّة؟ ألم يطرد آل الصباح مئات الآلاف من الفلسطينيّين من الكويت وسرقوا ثرواتهم وحرموهم من التعويضات لأن منظمّة التحرير لم تسر في ركاب الحرب الأميركيّة آنذاك؟ والسفير العسيري كان واضحاً في لقائه مع الإعلاميّين والإعلاميّات والشخصيّات التي استدعاها للتصفيق له: قال لهم بصريح العبارة ان المواقف المنتقدة للسياسة والحروب السعوديّة تضرّ بـ «مصالح لبنان وأبنائه» وتعرضه لـ«الخطر». لا، لم يكن هذا تهديداً من نوع التهديد لكن هذا من نوع النصح والإرشاد، ولا علاقة لهذا بالأسرى – عفواً، الضيوف – اللبنانيّين في الممكلة السعوديّة حيث يحظون بكل ما يحظى به العربي من حريّات وتنعّم وديمقراطيّة واعتدال بالإضافة إلى الترويح والتسلية التي تضفي عليها رياضة قطع الرؤوس الدوريّة شيئاً من المرح. ولو استدعى السفير السوري في لبنان شخصيّات وإعلاميّين وحذّرهم من مخاطر معارضة النظام السوري في إعلام لبنان، لما بدرت مبادرة منهم أو اعتراض، ولكانوا ناصروه كما ناصروا دعوات القمع والجزر من سفير آل سعود.

لم يعد السفير السعودي يحتمل. لقد تطرّفت الجريدة في معارضتها للمملكة التي حرصت منذ عام 1990 على أن تبتاع الصحف يميناً وشمالاً كي تبقى وجهة نظر واحدة في الإعلام العربي وذلك من أجل وحدة الصفّ (العربي ــ الإسرائيلي ــ الأميركي) وفي هذا خدمة للعروبة كما يفهمها سمير جعجع وفؤاد السنيورة الذي لم يحتج في حياته إلى فحص دم خصوصاً وأن جورج بوش أهداه شهادة في الوطنيّة والعروبة من مقرّه في البيت الأبيض. ولماذا تريد جريدة «الأخبار» المفترية ان تنغّص على آل سعود؟ ألا يكفي ما يتحمّلون من متاعب ومشاق؟ ألا يكفي ان آل سعود يحملون مع حلفائهم في تل أبيب أعباء الدفاع عن القضيّة الفلسطينيّة وعن بيضة الدين التي تتعرّض للخطر من الحركة الحوثيّة؟ ولماذا السماح لوجود جريدة معارضة واحدة والتنوّع بين إعلام النظام القطري والسعودي يسمح بالتنقّل بين الوسائل وفي تنوّع مناصرة آل سعود بعد ان لحق إعلام النظام القطري بمشيئة آل سعود كاملة.

ولماذا تتحامل جريدة «الأخبار» على آل سعود، لماذا؟ لماذا لا تماشي كل الصحافة العربيّة في النطق بالشهادة السعوديّة الوهابيّة ليل نهار؟ لقد تجمّع في «الجنادريّة» كتّاب عرب من اليسار واليمين والوسط والعلمانيّين والإسلاميّين والطائفيّين والوسطيّين وفي هذا شهادة ان حكم آل سعود يجمع ولا يفرّق، وان العقيدة الوهّابيّة الحاكمة هي الوصفة الوحيدة الكفيلة بالقضاء على الفرقة والانقسام.

فلتصمت أصوات النشاز في «الأخبار» في هجاء آل سعود. وكما ذكّر السفير السعودي فإن «الأخبار» بقيت الوحيدة التي تغرّد خارج سرب الإجماع العربي المُشترى بأموال النفط والغاز من أجل صون الموقف المُوحّد للنظام العربي الرسمي الذي بذلت أميركا وحليفتها إسرائيل النفيس لحفظه. وقد هتفت كل أصوات 14 آذار وكل أصوات الليبراليّة، وأصوات «المجتمع المدني» الذي يغنّي في المناسبات لحريّة الرأي والتعبير من أجل إسكات الأصوات المُعارضة لآل سعود في تأييد القمع السعودي. إن الليبراليّين والليبراليّات في لبنان أجمعوا على أن تأييد الحرب السعوديّة هو واجب وطني وليبرالي وانه ممنوع معارضة المواقف السعوديّة. كما ان لهذه الحرب وهجاً خاصاً بها إذ ان الذين كانوا يفتون أنهم ضد أي عنف ضد العدوّ الإسرائيلي وأن مقاومة الاحتلال الإسرائيلي لا تكون إلا بالورود وقرع الطناجر الاحتجاجيّة و«النضال الديبلوماسي» الذي مارسه فؤاد السنيورة وحرّر من خلاله مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وقرية الغجر والقرى السبع وكان على وشك تحرير كل فلسطين لو أنه استمرّ في الحكم سنة إضافيّة.

إن تأييد الفريق الليبرالي اللبناني للقرار السعودي بإسكات كل الأصوات المعارضة لآل سعود ينطلق من حرص المملكة على تصدير القمع السعودي إلى لبنان وباقي الدول العربيّة الأخرى. كما ان السفير السعودي كان منسجماً مع نفسه: هو لا يرضى بحسب فهمه للقانون اللبناني ان يُعيّر أي نظام عربي أو ان يتلقّى أي حاكم عربي (وكلّهم مختارون من شعوبهم بحريّة مطلقة وإن كانت الانتخابات في المملكة السعوديّة تتفوّق على مثيلاتها من حيث المعايير العلميّة والعلمائيّة ومن حيث نقل التجربة السويديّة المتقدّمة في الديمقراطيّة إلى جزيرة العرب) ذمّاً أو تحقيراً في الإعلام اللبناني. وهذه كلمة حق: إن الإعلام المُبتاع من آل سعود في لبنان لا تصدر عنه كلمة ذم أو قدح ضد بشّار الأسد أو ضد حكّام إيران بالرغم من الخلاف العميق بين الحكم السعودي والإيراني، ولا تصدر عنه كلمة ذمّ ضد قادة في لبنان من الذين لم ينخرطوا في المعسكر السعودي. لقد تعامل إعلام آل سعود في لبنان مع بشّار الأسد وحكّام إيران بفائق الاحترام والابتعاد عن الشخصنة. لا، لا يجوزُ ان تبدر عن صحافة لبنان قلّة احترام وذوق فيما حافظ الإعلام السعودي والحريري على أعلى معايير المهنيّة والذوق العام والخاص (والصهيوني أيضاً، إمعاناً في الإيغال في الآداب).

هناك من سيقول (لن أقول «ستقول» لأن النساء عورات في مملكة آل سعود ويجب ان يراعي لبنان، كل لبنان، مشاعر ومعايير آل سعود عبر إطلاق صفة العورات على كل ما يتعلّق بالنساء، فنقول مثلاً «قطاع العورات» بدلاً من «قطاع النساء» وهذا سيسرّ السفير السعودي الذي ضاق ذرعاً بمعايير القرن الواحد والعشرين) إن آل سعود يسيطرون على الإعلام في لبنان وفي المنطقة. قد يكون ذلك صحيحاً لكن هناك ناحية مميّزة واستثنائيّة للتمويل السعودي للصحف في لبنان والمنطقة، وسأحيلكم هنا على تصريح شديد الشفافيّة والعفاف لنقيب الصحافيّين في لبنان المُفكّر عوني الكعكي. هل هناك من يشكّك بمصداقيّة ومهنيّة وبلاغة عوني الكعكي؟ هل هناك؟ هل كان يمكن لعوني الكعكي ان يرتقي إلى هذا المنصب الرفيع من دون ان يكون قد راكم سنوات وسنوات من العمل الصحافي الدؤوب والأدب الرفيع؟ قد يقول قائل ان جريدته «الشرق» كانت لسنوات ناطقة باسم المخابرات السوريّة في لبنان، وانها كانت تجذب لها القرّاء في سنوات الحرب عبر نشر صور لنساء شقراوات عاريات يوميّاً، لكن ما علاقة هذا بذاك؟ إذا كانت «الشرق» فشلت في جذب القرّاء عبر مقالات وتحليلات الكعكي أو عبر الخط السياسي، فاللوم هنا يقع على القرّاء لا على الكعكي. عوني الكعكي يقول في تصريح لصحيفة الملك سلمان وأولاده (والصحافة عند آل سعود وآل الحريري عائليّة إذ ان ذلك يصون الشرائع والأعراف)، «الشرق الأوسط»، ما يلي: «مثلاً هناك دول مثل السعوديّة ومصر والكويت تساعد ولا تطلب شيئاً بالمقابل. هناك دولة واحدة تخرج عن القانون العام وهي تساعد سياسيّاً وليس مساعدات لمصلحة لبنان والصحافة اللبنانيّة». وسأله السائل: «تقصد إيران؟» فأجابه الكعكي، فخر الصحافة اللبنانيّة بترفّع معروف عنه: «لن أسمّي». إن هذا التصريح بحدّ ذاته يكفي لدحض كل حملات صحيفة «الأخبار» ضد دور آل سعود في الإعلام. هاكم وهاكنّ نقيب الصحافة اللبنانيّة يؤكّد بالملموس والدليل القاطع ان آل سعود عندما يموّلون الصحف والنشرات والشاشات لا يطلبون مقابل. هم يمولّون خدمة للإنسانيّة فقط. ولكم ولكنّ حق الحكم من تلقاء أنفسكم. فلتجُل عيونك في إعلام آل سعود: ألا تجدون مسافة ومراوح واسعة من الآراء؟ ألا تلاحظون ان للكاتب في مضارب بني سعود مطلق الحرية في التجوال بين هذا الأمير أو ذاك؟ هناك حق الاختيار بين الولاء لهذا الأمير أو أخيه. إذا لم تكن هذا حريّة تعبير، فما هي حريّة التعبير عند الصحف الصفراء التي تنتقد آل سعود؟ أكثر من ذلك، بعد المصالحة بين النظاميْن القطري والسعودي بات مسموحاً التجوال بين إعلام آل ثاني وآل سعود، وإن أصبح الإعلام الأوّل أكثر تزمّتاً في الدفاع عن الإعلام الثاني.

كفى هذا الاستهتار بعقول الناس. يوحي كتّاب هذه الجريدة الصفراء ان الذين واللواتي يلهجون بحمد آل سعود وينطقون بدعاية آل سعود ويضربون بسيف آل سعود يفعلون ذلك مقابل مردود مالي وليس عن قناعة محضة. هل هذا ما تريدون إيحاءه؟ صحيح ان مجلّة «الوطن العربي» تغيّرت بين ليلة وضحاها في صيف 1990 من مطبوعة تناصر صدّام وحروبه واجتياحه للكويت إلى مطبوعة تناصر الحرب السعوديّة – الأميركيّة – السوريّة – المصريّة ضده لكن هذا الانقلاب لم يكن بسبب حقيبة نقود جلبها خالد بن سلطان معه بل بسبب قناعة وتفكير وتأمّل من صاحب المطبوعة وإن تزامن تقلّبه مع زيارة خالد بن سلطان له. وفؤاد مطر تحوّل من داع لصدّام حسين إلى داع لآل سعود نتيجة عُصارة (أو عصّارة) فكريّة لا مثيل لها. هذا مثل تغيّر قناعات ميشال سليمان بعد ان كان يتفنّن في تدبيج مدائح للمقاومة ثم انقلب بعد زيارات للنقاش الأكاديمي – الفكري مع أمراء آل سعود في الرياض. إن كل الأقلام التي تكيل المديح لآل سعود أو تلك التي تتخصّص في هجاء أعداء آل سعود (مَن يلاحظ التخصّص في صفوف أبواق آل سعود؟ هناك تقسيم عمل واضح بين الأبواق، لكن لا هم طالما ان الخدمات مسدّدة) تفعل ذلك عن قناعة محضة وليس طمعاً في المردود المالي.

خذوا مثلاً حالة الكاتب الحريري الذي ردّ على نوّاف الموسوي في موقع «مدن الغاز» والذي طالب جهاراً (من موقع ليبرالي علماني محض يسوقه دوريّاً ضد عقيدة حزب الله التي تخالفه الليبراليّة والعلمانيّة الحريريّة الطراز والمقاس) بتحويل لبنان إلى «إمارة سعوديّة». قال إن ذلك هو مُناه لأن شركة الطيران السعودي ذات تصنيف رفيع وفق موقع إخباري على الإنترنت ولأن الاقتصاد السعودي (الذي هو مضرب المثل في ريعيّته وفي تخلّفه وفي عدم تلبيته لحاجات الشباب السعودي، والذي شكّل طبقة كبيرة من الفقراء باعتراف عبدالله بن عبد العزيز، والذي يعاني من بطالة خانقة) متفوّق ومحتذى. والذي قال هذا الكلام قاله عن قناعة وليس عن مصلحة أو انتهازيّة أو نفعيّة. معاذ ربّ القواعد العسكريّة الأميركيّة المنتشرة في منطقة الخليج. وتحويل لبنان إلى إمارة سعوديّة كفيل بنقل تجربة المملكة في الحريّات العامّة والخاصّة وفي المساواة بين الجنسيْن وفي العقاب المُلطّف (وإن شابه قطع الرؤوس والأطراف في الساحات العامّة) إلى لبنان. وهذا الليبرالي قرأ في التراث الليبرالي الفكري وجال بين الدول والنظم واكتشف أن نظام آل سعود هو أقرب النظم إلى الفكر الليبرالي، وإن تخطّاه في الممارسة، خصوصاً بالسياط والسيوف. أي أن شروط الإمارة السعوديّة تنافي المستوى المتدنّي للحريّات في إيران مثلاً، لأن كل أبواق آل سعود لا تعترض على الحكم الإيراني إلا من باب المفاضلة بين نظاميْن: واحد ليبرالي علماني ديمقراطي في الرياض وآخر ديني رجعي في طهران. هذا كل ما في الأمر، صراحة. لم لا؟ لبنان إمارة سعوديّة، ولا ينقص إلا سيّاف ذو ساعديْن قويّيْن.

والصحافي في محطة آل الحريري (وهي محطة مستقلّة كما هو معروف)، نديم قطيش (وهو صحافي مستقل ومنزّه عن الهوى والغرض السياسي، وهو – الحق يُقال – على مسافة واحدة بين جميع الأطراف في لبنان، أي مثله مثل السفير السعودي إيّاه)، قال من على منبر المحطة السعوديّة المملوكة من صهر الملك فهد، «العربيّة» (وهي محطة مستقلّة لا تنتمي إلا الى المهنيّة والحرفيّة في تقديم الخبر) إنه مطلوب من مملكة الخير السعودي «إحداث توازن إعلامي في وجه إعلام ميليشيات إيران العسكريّة والسياسيّة». ومَن يختلف مع قوله هذا؟ ما يريد هذا الصحافي قوله إنه بقيت هناك صحيفة واحدة فقط تنطق ضد سياسات وحروب آل سعود، والتوازن (بالمعيار السعودي الوهّابي للتوازن ووفق تعريفات هيئة كبار وصغار علماء الذرّة في الرياض) الحقيقي يتطلّب إقفال تلك الصحيفة المعارضة لنهج آل سعود. أي ان التوازن يكون – هذه جدليّة قد تكون صعبة لمَن لم يتمرّس في فتات كتابات محمّد بن عبد الوهاب ممزوجة بشيء من توابل هيغل – في عدم التوازن لأن الخط الواحد هو التوازن عينه، لأن للحق (الحكومي السعودي) وجهاً واحداً فقط، أما الوجه الآخر فهو الضلال الذي تمثّله هذه الجريدة. والمطالبة بتكثيف الحضور السعودي في لبنان هو بمعنى آخر إحكام السيطرة على كل وسائل الإعلام كي لا تجرؤ صحيفة بعد اليوم على معارضة آل سعود. فليحكم التوازن.

ويوافق على هذا المنطق كل دعاة حريّات الرأي الفرديّة في لبنان والذين واللواتي حملوا الشموع والبقدونس في تظاهرات جوّالة للدفاع عن حريّة التعبير عبر السنوات. وقد انبرى «ناشطون» مستقلّون وناشطات في صلب «المجتمع المدني» (وهو مثل السفير العسيري على مسافة واحدة من كل الأطراف في… فريق 14 آذار) في هذا الأسبوع للدفاع عن الموقف السعودي. لكن الربط بين تأييد الموقف السعودي وبين التمويل السعودي المتشعّب مُغرض ومُجحف.

خذوا وخذن حالة إلياس المرّ (الذي إن وعد – بالطائرات الروسيّة – وفى، وإن حارب عبدة الشيطان هزمهم في عقر دارهم) الذي قال هذا الأسبوع من قلب «صندوق الإنتربول لعالم أكثر جمالاً ورونقاً» (ما حكاية صندوق الإنتربول العالمي هذا الذي يوزّع ميداليّات وأيقونات على أصدقاء المرّ في لبنان، وعلى زعامات دينيّة قريبة منه؟) إن العلاقة «التي تربط آل المرّ بالمملكة السعوديّة الشقيقة منذ 40 عاماً هي علاقة سياسيّة قائمة على أعلى المستويات، ومبنيّة على الاحترام والصداقة، وآل المرّ فخورون بذلك لما للملكة وقيادتها من مبادرات خيّرة في دعم لبنان».

أليس هذا أفضل توصيف للعلاقة بين آل سعود وأصدقائهم من اللبنانيّين؟ هل هناك من يُشكّك في وطنيّة وإخلاص ونزاهة وعروبة إلياس المرّ الذي حاز ثقة رستم غزالي وجيفري فيلتمان في آن؟ كفى استهتاراً بمشاعر اللبنانيّين والعورات من اللبنانيّات، يا جريدة و«الأخبار» المناكفة لحكم آل سعود.

لآل سعود أياد بيضاء على لبنان. ألم يسهموا في أرباح «كازينو لبنان» منذ إنشائه؟ ألم يسهموا أكثر من غيرهم في سياحة الدعارة في لبنان؟ تسألون في ذلك أمراء آل سعود. مَن كان يدعم ملاهي «الزيتونة» في سنوات ما قبل الحرب أكثر من أمراء آل سعود؟ والجالية اللبنانيّة في المملكة، حتى في حالة السائقين المُحتجزين، يتنعّمون بالحريّة والرعاية كما أعلمنا أكرم شهيّب (الذي تنقّل مثل المعلّم، قائد حزبه، برشاقة من مديح النظام السوري إلى مديح النظام السعودي، والكامخ بينهما). مَن موّل حملات 14 آذار (بتوازن) غير آل سعود؟ من سلّح الشركات الأمنيّة للقضاء على حزب غير آل سعود؟ من خلق ورعى وسلّح «القاعدة» ومشتقّاتها غير آل سعود؟ من موّل حزب الكتائب اللبنانيّة وسلّحه في بداية الحرب الأهليّة غير… إسرائيل وآل سعود.

هذه مرحلة حرجة من تاريخنا المعاصر، وهي لا تتحمّل تعدّداً في الآراء والتحليلات. هي مرحلة تتطلّب الإجماع من الجميع وما على الأصوات المعارضة في هذه الجريدة إلا أن تخرس، ولكم في ذلك أجر، يا كتّاب.