بين السعودية والرئيس سعد الحريري تقاطع يتعلق بعنوان الانسحاب من لبنان. الأولى لا تريد أن تتورط في السياسة اللبنانية مالياً أو سياسياً، والثاني بات أقرب إلى إعلان موقفه من الانسحاب من الساحة اللبنانية
بعد شهر، تحلّ ذكرى اغتيال الرئيس رفيق الحريري. في العادة، يُنظر الى المناسبة كحدث سياسي، يتضمّن كلمة للرئيس سعد الحريري تحمل، بحسب الظروف والتطورات السياسية، دلالات معبرة عن علاقة تيار المستقبل بحزب الله أو القوات اللبنانية أو قوى 14 آذار أو التسوية الرئاسية. هذه السنة تتقاطع الذكرى مع حدث مرتقب يتعلق بموقف الحريري من خوض الانتخابات أو إعلان انسحابه من الحياة السياسية، وهو الأكثر ترجيحاً حتى الآن، ومصير تيار المستقبل والإرث السياسي لعائلة الحريري. ورغم أن باب الترشيحات لن يُقفل قبل منتصف آذار المقبل، إلا أن الذكرى قد لا تمرّ من دون حدث سياسي يفرض نفسه على عائلة الحريري وتيار المستقبل وموقعه في السياسة العامة، سواء جرت الانتخابات النيابية أو لم تجر. ومن شأن هذا الحدث أن يتحوّل مفترق طرق أساسياً، ليس فقط لجهة التموضع الانتخابي والتحالفات، بل أيضاً لمعرفة موقف الرياض من التحولات المرتقبة.
فالحريري يطوي، في 14 شباط، 17 سنة في الحياة السياسية، دفع فيها أثماناً باهظة، سياسية ومالية وشخصية، وخسر خلالها كثيراً من الحلفاء وربح كثيراً من الأعداء. وهو يكاد يكون الزعيم الأول في التاريخ الحديث، حتى الآن، الذي يلوّح بالانسحاب من الحياة السياسية، بغض النظر عن ظروفها المحلية والإقليمية، فيما يستكمل السياسيون الآخرون لعبة التمسك بالكرسي السياسي حتى آخر رمق. وهو، كما يرجّح بعض عارفيه، لن يخرج بسهولة ومن دون «تصفية حسابات» مع كل الذين ساهموا في إحراجه لإخراجه، رغم أن بعض المحيطين به من الحلقة الأقرب، ممن تركوه أو بقوا الى جانبه، يتحمّلون مسؤولية ما جرى معه. لكن مهما يكن قرار الحريري، بحسب أوساط مطّلعة على محادثات جرت أخيراً خارج لبنان، فلن يكون له علاقة بالرياض التي لا تزال على موقفها منه، وليست على تماس مع كل ما يجري داخل وسط الحريري الأقرب والأبعد.
مهما يكن قرار الحريري، بالبقاء أو بالانسحاب، فلن يغيّر ذلك في موقف الرياض منه
وبخلاف كل الرهانات التي تعوّل عليها بعض القوى السياسية، سواء الحليفة للسعودية أو التي تخاصمها، فإن الرياض، بحسب زوار للعاصمة السعودية أخيراً، لا تزال منصرفة عن الوضع اللبناني. ولن يغيّر قرار الحريري بالبقاء أو الانسحاب من الحياة السياسية في هذه المعادلة شيئاً حالياً، كما لم تبدّل زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون للرياض من القرار المتخذ على أعلى مستوياتها بعدم التدخل حالياً في الوضع اللبناني، عدا عن وعد بمساعدة إنسانية لم تترجم على الأرض بعد، وإن أكدتها باريس أخيراً، علماً بأن الزيارة التي توصف في بعض الدوائر الغربية بـ«الفاشلة»، لم تنجح إلا في فكّ أسر الرئيس نجيب ميقاتي للحظات، من دون أي رهان على تبديل الموقف من حكومته أو من لبنان ككل، رغم كل الخطوات الأخيرة التي قام بها رئيس الحكومة.
من ينتظرون الرياض اليوم نوعان: خصومها الذين يراهنون على أنها ستردّ حتماً على خطوات لبنانية كما جرى في موضوع مؤتمر المعارضة السعودية، وقبلها كلام وزير الإعلام المستقيل جورج قرداحي، على افتراض أن خطوات من هذا النوع قابلة للصرف والاستثمار محلياً. أما النوع الثاني فيضمّ حلفاء السعودية، وهؤلاء أيضاً نوعان: أحدهما ينتظر موقفاً سياسياً حاسماً لجمع الحلفاء في خوض الانتخابات، وهم يرتضون حتى بإيحاء غير مباشر. والثاني ينتظر تدفق الأموال السعودية قبل الاستحقاق المذكور وهذا ينطبق على بعض قوى وشخصيات سياسية وإعلامية.
حتى الآن، كما تقول معلومات مطّلعين على موقف الرياض، لا قرار بتمويل حملات انتخابية، ولا قرار رفيع المستوى بدفع أموال بالمفرّق، وإن كانت هناك جهات تعد نفسها أو تعد المحيطين بها بتحصيل مساعدات مالية. أما ارتباط شخصيات من هنا وهناك ببعض الجهات وتقاضي أموال وتمويل حملات إعلامية أو عبر مواقع التواصل الاجتماعي فهو ليس قراراً رسمياً، بل من مخلفات السياسات الماضية لشخصيات ليست من الصف الأول ولا تنفّذ تعليمات محددة. هذا لا يعني أن الرياض تقفل أبوابها أمام قاصديها ولا سيما من شخصيات تثق بها وتحترم رأيها وموقفها، وهي أصبحت معدودة، علماً بأن بعضاً منها لم يطلب أي مساعدة مالية ويرجح أنه لن يطلب منها مستقبلاً. لكن أي مساعدة مالية محتملة، لن تشكل حالة تعبئة سياسية للمساهمة في خوض الانتخابات وتمويل حلفائها كما جرى سابقاً.
كل ذلك يؤدي الى خلاصة، وهي أن الرياض لا تزال على صلة بحلفاء تعرفهم سلفاً وتعرف مواقفهم. لكن ذلك لم يعد محصوراً بالكلفة المالية ولا بصرف شيكات من دون حساب، وهو لن يبدّل حرفاً في تعاطيها مع الانتخابات والوضع اللبناني المنشغلة عنه الى حدّ غير مسبوق. أما ما بعد الانتخابات فحديث آخر، وفقاً للنتائج ولمسار الأوضاع الداخلية واتجاهاتها.