IMLebanon

طبخة سعودية – سورية للبنان؟

 

 

 

هل اقتربت اللحظة التي يدفع فيها الاهتراء الشديد لبنان إلى الاستسلام للتسويات الإقليمية الكبرى، كما يخشى الكثيرون؟ فاللافت في هذه المرحلة التي ينحدر فيها البلد سريعاً في الهاوية المالية والاقتصادية والسياسية بلا ضوابط، أنه تطرأ تحوُّلات سياسية حسّاسة وانقلابات تعنيه مباشرة ويمكن أن ترسم مصيره، من مفاوضات فيينا الى حرب أوكرانيا الى المفاجآت السياسية التي شهدها الخليج العربي في الأيام الأخيرة.

 

يصعب التصديق أنّ المبادرة الكويتية عادت إلى الواجهة لمجرَّد «تعهُّد» الرئيس نجيب ميقاتي بأن لبنان سيعمل على التزام بنودها. فقد سبق للبنان أن «باع» الخليجيين مواقف مشابهة، فلم يصدقوه. وبقيت المبادرة نائمة في الأدراج منذ 22 كانون الثاني.

ومنذ ذلك الحين، لم يجرؤ أي مسؤول لبناني على تقديم التزام فعلي بها، لأن فحواها العملي هو فكّ الارتباط بين الدولة اللبنانية و»حزب الله» ووقف أي استهداف للخليجيين من لبنان. وهذا ما لا قدرة لأيّ مسؤول على التزامه.

إذاً، ما يجري اليوم فعلاً هو أن الخليجيين يعملون على تمرير سيناريو معيّن، ويبحثون عن إخراج له. فخلال ساعات قليلة توالت المواقف: اتصال بين ميقاتي ووزير خارجية الكويت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح، أعقبه «وَعد ميقاتي»، وكرَّت سبحة المواقف السعودية، وشاعت أجواء الحلحلة مع لبنان سريعاً وفي شكل مفاجئ.

الأهم في هذه المسألة هو أن «حزب الله» لم يعترض على موقف ميقاتي. وهذا مؤشّر جديد. وكذلك، إن المملكة العربية السعودية التي لم تتجاوب مع المبادرة الفرنسية في السابق، ولم تتنازل بأكثر من اتصال هاتفي مع ميقاتي، تُبدي اليوم اهتماماً غير مسبوق بإعادة ترتيب العلاقات مع لبنان، مع أن الجانب اللبناني لم يُظهِر أي تبديل في مواقفه السياسية منذ ذلك الحين.

ومعلوم أن المملكة بقيت في الأشهر الأخيرة تشجّع حلفاءها على اعتماد أسلوب المواجهة مع «الحزب»، باعتباره الخيار الوحيد الباقي بعد فشل المحاولات الأخرى. وأرادت الإفادة من فرصة الانتخابات النيابية لإحداث خرقٍ في واقع سيطرته على قرار الدولة. وفي هذا السياق، يأتي انسحاب الرئيس سعد الحريري وتياره من العملية الانتخابية.

على الأرجح، تراجع الرهان على الانتخابات. وكل التقديرات «الموضوعية» تؤشّر إلى أن «حزب الله» وحلفاءه سيعودون إلى المجلس بغالبية تفوق تلك التي يتمتعون بها اليوم. وهذا سيمنحهم مشروعية التحكم بالقرار لسنوات أخرى، باعتراف إقليمي ودولي اضطراري.

وحتى انّ الأميركيين سيباركون نتائج الانتخابات التي ستُجرى «ديموقراطياً» (بمفهوم الديموقراطية الشائع في لبنان منذ عقود، والذي وافق عليه المجتمع الدولي ويتعايش مع نتائجه). وإذا توصّل الأميركيون والإيرانيون إلى إبرام الصفقة في فيينا، فسيكون من السهل على إيران تحصيل الاعتراف الأميركي بضمان نفوذ حلفائها في لبنان.

في الفترة الأخيرة، وجد الخليجيون أنفسهم في علاقة صعبة مع إدارة الرئيس جو بايدن. وقد ساوَرهم القلق والشكوك من جدّية استعدادها لدعمهم فعلاً في مواجهة إيران والحوثيين. بل إنهم يتَّهمونها بالتزام موقف شجَّع هؤلاء على الضرب بالصواريخ البالستية والمسيَّرات في قلب المدن وزعزعة الاستقرار الاقتصادي والأمن داخل السعودية والإمارات.

في العمق، تدهورت العلاقة بين الخليجيين وإدارة بايدن. ويعمد كل من الطرفين إلى معاقبة الآخر. وأجرى الخليجيون مراجعة جذرية للأرباح والخسائر من تحالفهم مع واشنطن. وهذا ما دفعهم إلى انتهاج موقف شديد الدقّة في ملف أوكرانيا، فرفضوا الانصياع لطلب الأميركيين زيادة إنتاج النفط والغاز، بهدف إضعاف الموقف الروسي، مع علمهم بالعواقب المحتملة.

الأرجح أن الخليجيين قرّروا أخذ أمورهم بأيديهم بعد دراسة التوازنات الإقليمية والدولية، وانتهاج استراتيجية جديدة استباقاً للتحوّلات المرتقبة في فيينا وكييف. ومن الواضح أنهم يسعون إلى ضمان موقعهم من خلال علاقات أكثر توازناً على مفترق المصالح بين الشرق (روسيا، الصين) والغرب (الولايات المتحدة وأوروبا)، وفي خريطة التوازنات الإقليمية (إسرائيل، إيران، تركيا).

ويسعى الخليجيون إلى لملمة ما أمكن من أوراق واستثمارها. واليمن هو الخاصرة التي يريدون تأمينها أولاً، ومنه ينطلقون للتفاوض على النقاط الأخرى في الشرق الأوسط. وهناك رهان على تحقيق نتائج من الحوار المرتقب بين السعوديين والحوثيين، ومن خلالهم إيران. وعلى الأرجح، سيُستأنف الحوار المجمَّد مع الإيرانيين أيضاً.

ولا تقتصر شكوى الخليجيين من بايدن على ملف اليمن والحوثيين، بل تتعداه إلى الدول العربية التي تُمسك طهران بالقرار فيها. ففي العراق يتجرّأ الإيرانيون، وفي آخر الفصول توجيه الصواريخ إلى أربيل. والجسر الذي يقيمونه عبر سوريا يبقى متماسكاً. وأما في لبنان فهم مقبلون على ترسيخ النفوذ لسنوات، بالانتخابات أو من دونها.

في هذا المشهد، جاء تسريع خطوات التطبيع مع الرئيس السوري بشّار الأسد، بتشجيع روسي وعدم ممانعة إسرائيلية. وما يعني لبنان هو ذلك الانفراج المفاجئ في العلاقات الخليجية معه، والإعلان عن عودة السفير السعودي وليد البخاري إلى بيروت، في اللحظة التي كان الأسد يحلّ فيها ضيفاً على الإمارات، وفيما تتردَّد معلومات عن احتمال قيام مسؤول سعودي بزيارة دمشق.

هذا الخلط القوي للأوراق يفتح الباب لاحتمال إبرام تسويات بين الخليجيين وإيران. ولكن أيضاً، سيكون لإسرائيل رأي في أي تسوية آتية، بعدما باتت موجودة بقوة داخل المعادلة العربية. ولذلك، سارَع رئيس وزرائها نفتالي بينيت، إلى قمة مفاجئة مع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، في شرم الشيخ. في أوقات سابقة، قيل الكثير عن مقايضة قد يوافق عليها الخليجيون: اليمن مقابل لبنان. وهذا الكلام يتردَّد اليوم أيضاً: إيران تتكفل بوقف استخدام اليمن خاصرةً ضعيفة لاستهداف السعودية والإمارات، وفي المقابل، يسلِّم السعوديون بنفوذ إيراني في لبنان.

البعض يقول: صيغة التسوية ربما تقضي بتكليف الأسد دوراً جديداً لتحقيق التوازن ما بين السعودية وإيران في سوريا ولبنان. فالإيرانيون يقبلون بدور الأسد، حليفهم الذي قاتلوا طويلاً من أجله. وأما السعوديون فيفضلون التعاطي معه بدلاً من التعاطي مع إيران. وسبق أن اعتمدوه في لبنان لسنوات.

يعني ذلك احتمال التوصُّل إلى تغطية سورية- سعودية لـ«طبخة» معيّنة في لبنان. وفي الترجمة اللبنانية الشائعة، عودة الـ»س-س»، وما يمكن أن تقود إليه لبنانياً، أي اتفاق جديد في حجم الطائف أو في حجم الدوحة. لكن العارفين يقولون: هذه التسوية تبقى رهناً بالتغطية الشاملة إقليمياً ودولياً، لأن أي قوة متضرّرة يمكن أن تعطِّلها بسهولة. فإسرائيل لها مطالبها المعروفة، والأميركيون لهم شروطهم ومصالحهم ولا يمرّ حلّ من دونهم. فهل تتمّ الصفقة التي ترضي الجميع؟ وهل يستثمرها لبنان للنهوض أم يكون ضحيةً لها؟

كل التقديرات «الموضوعية» تؤشّر إلى أن «حزب الله» وحلفاءه سيعودون إلى المجلس بغالبية تفوق تلك التي يتمتعون بها اليوم