Site icon IMLebanon

مَن عليه مراجعة سياساته من الآخر.. لبنان أم السعودية؟

 

كلام دياب عن «أوركسترا التحريض» يعكس إرباك الحكومة ويُسيء لدول الخليج

 

 

ما كشفته «اللواء» الاثنين الفائت عن عدم رغبة المملكة العربية السعودية باستقبال رئيس الحكومة حسان دياب، وتالياً عدم حماستها لمساعدة لبنان لتجاوز أزمته المالية، وعن توجه سعودي مع 9 دول أخرى لإعادة النظر بالتزاماتها في مؤتمر «سيدر» تأسيساً على تأخّر الحكومة اللبنانية في تنفيذ الإصلاحات التي سبق التعهّد بها، وخصوصاً مكافحة الفساد وتنفيذ إصلاحات مالية وإدارية.. كل ذلك، لا يشير إلى وضع حكومة دياب الهشّ، محلياً وعربياً ودولياً فحسب، بل يعيد التذكير بأمر مهم، وهو أزمة العلاقات اللبنانية – العربية، أسباباً وتداعيات ونتائج، بما يتجاوز الحكومة بوصفها حكومة لون واحد، لتطال المنظومة الحاكمة وأداءها الذي بات يصادم ويناقض وقائع تاريخ لبنان وبديهات مصالح شعبه.

 

ليس الرياض فحسب

 

قبل فترة علّق نائب وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان على ما تمر به العلاقات اللبنانية – السعودية بقوله «دعمت السعودية في التاريخ القريب لبنان بما يزيد عن 5 مليارات دولار، وفي مؤتمر باريس تبرّعت بـ2 مليار دولار، ويبلغ التبادل التجاري للسعودية مع لبنان 626 مليون دولار، ويشكل السياح السعوديون أكثر من 20% من عدد السياح في لبنان»، واختصر المعادلة بقوله: «نرسل السياح إلى لبنان، وإيران ترسل الإرهابيين، نرسل رجال الأعمال، وإيران ترسل المستشارين العسكريين، نبني الفنادق ونخلق فرص العمل، وإيران تخلق الإرهاب، نريد للبنان أن يكون بلدًا أفضل وأقوى ومزدهرًا، وإيران تريد أن يخوض حرباً نيابة عنها وتريد منه أن يقوم بمشاريع طهران التوسعية».

 

ليست السعودية فقط الجهة الحريصة والفاعلة والمؤثرة التي تحاول تنبيه المتحكمين بالسلطة في لبنان بحصول اختلال قد يوصل إلى منزلقات خطيرة، آخر الأجواء الآتية من فرنسا تفيد أن باريس لا تعارض حكومة دياب، لكنها لا ترحب بها، بل تنتظر منها المضي بالإصلاحات، وهذا هو جوهر الموقف الأوروبي؛ إصلاحات ومكافحة الفساد قبل أي خطوة باتجاه مساعدة لبنان.

 

وقبل يومين تحدثت السفيرة الأميركية اليزابيت ريتشارد عن رباعية ذهبية، قالت إن لبنان يفتقد نظاماً حديثاً لإدارة النفايات، وكهرباء 24 ساعة على سبعة أيام، وقوة مسلحة واحدة تحت سيطرة الدولة، واقتصاد متنام، ولفتت إلى إن «الجميع يدرك أن النظام لم يكن يعمل». ومثلها يكرر ممثل الأمين العام للأمم المتحدة يان كوبيتش بعد لقاء كل مسؤول؛ دعكم من الشعبويات وأرونا إجراءات لانقاذ لبنان.. لكن على من يقرأ هؤلاء مزاميرهم؟

 

خلفيات ضرورية

 

ليس بمفاجئ أبداً لمن يتتبع مسار التباعد اللبناني المتهوّر والمتعمد عن عمقه الحيوي الداعم، أي دول الخليج، ما آلت إليه الأمور راهناً، بل إن الغرابة تكمن في ما لو استمرت هذه الدول بدعم لبنان دون شروط، وهي تعلم أن هذا الدعم لا يصل إلى حيث يجب، أي الدولة ومؤسساتها والجهات المحتاجة بل إلى دويلات الفساد والهدر والتغوّل على الدولة، الأمر الآخر أيضاً هو عدم معاملتها المغتربين اللبنانيين بجريرة مواقف الأطراف اللبنانية التي تمعن بشتم وأذية والتطاول على دول الخليج، وتحديداً السعودية (فيها نحو 70 ألف عائلة لبنانية)، وهذا يعكس قيم المروءة والأصالة وعمق المحبة والاستيعاب والصبر والتفهّم السعودي.

 

لكنَّ الدولَ لا تبني أمنها الاستراتيجي، ولا تتعامل مع قضاياها الحيوية ومسائلها السيادية على القيم فقط، بل على المصالح وموازين القوى وحسابات التأثير والفاعلية والملاءمة الداخلية.. وبهذا المعنى يحق للسعودية، كما جاء على لسان الأمير خالد، أن تذكّر بسجل تعاملها مع لبنان خلال الحرب الأهلية، ثم برعاية اتفاق الطائف، ثم بإعادة الإعمار، وبعد كل عدوان إسرائيلي أو أزمة مالية أو سياسية.. ويحق لها أيضاً أن تضم صوتها للأسرة الدولية التي ضاقت ذرعا باستفحال الفساد وسيطرة السلاح، وهو ما أشار إليه وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية عادل الجبير مؤخراً في «منتدى دافوس» رداً على سؤال حول إمكانية مساعدة  اللبنانيين على الخروج من الكارثة المالية والاقتصادية؟ بالقول: «كانت السعودية أحد أكبر الداعمين للبنان خلال العقد المنصرم. يحتاج اللبنانيون إلى تطبيق إصلاحات اقتصادية جادة للمضي قدما واعتقد أن هذا ما حاول رئيس الحكومة السابق سعد الحريري فعله لكن تم منعه في كل منعطف من حزب الله وحلفائه».

 

دياب والأوركسترا!

 

وما ينطبق على السعودية يسري على بقية الدول العربية، والكلام هنا يوصل إلى ما نقل عن رئيس الحكومة حسان دياب خلال جلسة مجلس الوزراء الأخيرة حول «الأوركسترا التي تحرّض في الخارج ضدّ لبنان لمنع الدول الشقيقة والصديقة من مساعدته مالياً ومنعه من الإنهيار».

 

فالشق الداخلي لهذا الكلام لا يمكن فهمه سوى إعلان فشل تجاه مواجهة الأزمة الراهنة، فمسؤولية الحكومات هي مواجهة التحديات واجتراح الحلول وليس رمي المسؤولية هنا وهناك، هذا أولاً، ثم هو، ثانياً، تكرار لكلام قديم ما عاد ينطلي على أحد، ألا يعرف رئيس الحكومة أن راعي حكومته الرئيسي، حاضرٌ ومؤثرٌ وفاعلٌ في السلطة التنفيذية منذ العام 2008؟ وهو، ثالثاً، تأكيد على عدم استقلالية هذه الحكومة، بل ارتهانها للقرار الايراني! لكن الخطير في هذا الكلام هو شقه الخارجي، إذ إنه يتنافى مع أصول العلاقات بين الدول. دولُ الخليج، ككل دول العالم ذات السيادة تبني استراتيجياتها وسياساتها بحكمة وروية، ووفق مصالحها الوطنية، لا السجالات والأوهام والدسائس، ثم إن علاقاتها مع لبنان ومكوناته راسخة وقديمة وتعود لعقود.

 

كلام دياب، إذا أضيف إليه إرباك حكومته في التعامل مع أزمة تفشي وباء «كورونا»، وخصوصاً وقف الرحلات الجوية بين لبنان وإيران، وفشل محادثاتها مع «صندوق النّقد الدولي» لحل الأزمة المالية والنقدية واستحقاق سندات «يوروبوند»، بل تلويح بعض أطرافها بالذهاب نحو مصادمة المجتمع الدولي.. كل ذلك يوصل إلى قناعة تامة بعدم استقلاليتها وارتهانها، ويؤكد صوابية الموقف الدولي والعربي والخليجي منها.

 

البُعد العربي لأزمة النظام

 

ما بين الأجواء المنقولة عن عدم حماسة الرياض لاستقبال رئيس حكومة اللون الواحد، وما بين كلام رئيسها عن «أوركسترا التحريض»؛ الثابت أن ثمة بُعداً عربياً عميقاً لأزمة لبنان الراهنة. لا اللبنانيين المخلصين ولا العرب يقبلون باستنزاف البلد حتى نقطة الفشل والإفلاس والانزلاق نحو المجهول. لكن، في المقابل، لماذا على السعودية والخليجيين، والعرب عموماً، مساعدة لبنان سياسياً ومالياً في وقت يتضح أن صبرَ الفرنسيين والأميركيين والمجتمع الدولي قد نفذ إزاء سياسات اللعب على الكلام، والتملّص من الالتزامات، والوعود غير الصادقة بالإصلاح ومحاربة الفساد والحكم الرشيد؟

 

أزمة لبنان الراهنة مكونة من طبقات عدة، سياسية ومالية ونقدية وحياتية.. وصحية، وواحدة من طبقاتها سوء إدارة العلاقة بالعرب الذين ما أخطأوا يوما معه، وطبقة أخرى تتمثل بأن ثمة منطقاً غرائزياً، شعبوياً، انتقامياً، طائفياً مسيطرٌ ومتحكّمٌ ويتصدّر المشهد. هذا المنطقُ يهدف لجعل لبنان منصة لمواجهات لا يحتملها في لحظة تتكاثر عليه الضغوطات والتحديات والاستحقاقات. إن مراجعة سريعة لكثير من المواقف التي اتخذت من لبنان منصّة للتصويب على العرب، تكشف أنها تركت ندوباً في علاقات بيروت مع الدول العربية، وخصوصاً السعودية.

 

لم تقصّر السعودية عبر تاريخ طويل، ومعها والكويت والإمارات وغيرهم في حرصهم على لبنان الدولة والشعب، بالفعل لا الكلام، والبذل لا التحريض، وهم يعتبرون ذلك وقوفاً أخلاقياً وأخوياً مع بلد يعاني مشكلات مستعصية، ويرونه أيضاً دعماً للأمن للإقليمي العربي بمعناه الاستراتيجي الواسع. وكما ساعد العربُ لبنانَ سابقاً، يمكن أن يساعدوه ثانية على تجاوز الأزمات والمضي نحو التطوير والتنمية وإطفاء الديون، ليس العرب فقط بل الأوروبيون والمجتمع الدولي، لكن الأمر – بحسب هؤلاء جميعاً – مرهون بالإصلاح ومحاربة الفساد، بصدق وشفافية وجدية، وانتهاج العقلانية والابتعاد عن المكابرة والشعبوية في مقاربة الأمور الداخلية والخارجية، والأهم أن لا يكون لبنان منطلقاً للاستهداف، السياسي والأمني، لأي بلد عربي. بات لبنان، نتيجة سياسات التهوّر، فاقداً لكل دعم ورعاية، من العرب ومن المجتمع الدولي، وعلى اللبنانيين، بداية وقبل أي طرف آخر، أن يساعدوا أنفسهم وينقذوا بلدهم، وأي معادلة أخرى لن تنتج سوى مزيد من الخراب والإفلاس والعزلة.