ما جرى في الرياض خلال زيارة الرئيس الصيني شي جينبنغ إلى المملكة، والقمم الثلاث التي شارك فيها، سيؤدي إلى تغيير الصورة النمطية للعلاقات الصينية مع العالم العربي، لا سيما دول مجلس التعاون الخليجي، وخاصة المملكة العربية السعودية، المصدّر الأكبر للنفط إلى الصين.
كما أن نتائج هذه الزيارة أحدثت ديناميكية ناشطة في تفعيل العلاقات العربية مع المارد الصيني، وأدخلت عناصر جديدة على خريطة التحالفات مع الغرب، لا سيما العلاقات مع الولايات المتحدة، التي سادت منذ فترة طويلة دولياً وإقليمياً، وتعرضت لإهتزازات مختلفة في أكثر من مرحلة، ولأكثر من سبب في السنوات الأخيرة.
لا يمكن فصل زيارة الرئيس الصيني للرياض عن سياسة الإنفتاح التي تنتهجها القيادة السعودية في إطار رؤية ٢٠٣٠ التي وضعها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، ويعمل على تنفيذها بثبات وإصرار في مختلف المجالات: الداخلية وما حققته حتى الآن من خطوات تحديثية على صعيد النهوض العمراني والإقتصادي، والإصلاحات المالية ومكافحة الفساد، فضلاً عن إعادة النظر ببعض قوانين الحقوق المدنية، والجرعات التي تلقتها الحياة الإجتماعية، بشكل عام.
أما في المجالات الخارجية، فقد جاءت زيارة الزعيم الصيني تتويجاً لسلسلة خطوات جريئة إتخذها ولي العهد السعودي لتطوير العلاقات الخارجية مع عواصم القرار الدولي، وخاصة موسكو وبكين، لما فيه الحفاظ على المصالح السعودية، وتحقيق أكبر قدر ممكن من الإنفتاح والتوازن في السياسة الخارجية السعودية.
وعززت هذه السياسة الشجاعة مكانة السعودية في السياسة الدولية، وأظهرتها لاعباً فاعلاً في الأزمات العالمية الطارئة. خاصة بعد إندلاع الحرب في أوكرانيا، والموقف المتوازن الذي اتخذته المملكة بين طرفي النزاع، وإحتفاظها بمسافة واضحة عن الموقف الأوروبي ــ الأميركي الذي ساهم إلى حد كبير في تأجيج حدة الحرب، بينما إستطاعت السعودية، بحكمة الأمير محمد بن سلمان، أن تقوم بدور إنساني كبير بين الطرفين،وتأمين الإفراج عن سجناء أميركيين في موسكو، وسجناء روس من واشنطن، فضلاً عن المشاركة في الجهود المبذولة على أكثر من صعيد لوقف الحرب.
ولم يعد سراً القول أن العلاقات السعودية ــ الأميركية تعرضت لإهتزازات كبيرة في عهد الرئيس الديموقراطي باراك أوباما، إثر التوقيع على صيغة للاتفاق النووي مع إيران لم تأخذ في الإعتبار مصالح السعودية وهواجس الدول الخليجية من «الدور الإيراني التخريبي» في المنطقة.
وحاول بايدن أن يسير على خطى سلفه الديموقراطي في البداية، متجاهلاً إتخاذ المبادرات التي تُزيل الشوائب التي أساءت للتحالف التاريخي بين البلدين، ولكن أزمة الطاقة التي شغلت أميركا والدول الأوروبية بعد الحرب في أوكرانيا، دفعت الإدارة الأميركية إلى إعادة النظر بتوجهاتها الأولية، خاصة بعد رفض الأمير محمد بن سلمان التجاوب بزيادة إنتاج دول الأوبك للحد من إرتفاع الأسعار، وما يصاحبها من تضخم في الأسواق الغربية.
وكان لا بد للرئيس الأميركي من زيارة شخصية للمملكة، بعد فشل مهمات مبعوثيه الإوروبيين ووزير خارجيته في تغيير موقف القيادة السعودية. ساد الزيارة الرئاسية الأميركية مناقشات صريحة وواضحة، حول المآخذ السعودية والخليجية على السياسة الأميركية في الإقليم، والتي ساعدت على إطلاق يد إيران في العبث بالأمن القومي لبلدان المنطقة. أسفرت المناقشات على تفاهمات على بعض النقاط الحيوية، وتم رفع منسوب الضخ اليومي للنفط من بلدان الخليج العربي، ولكن واشنطن تباطأت في تنفيذ بعض الخطوات التي تم الإتفاق عليها، فكان أن عادت الهواجس الخليجية من جديد، وأثبتت التجربة أن الإنفتاح على موسكو وبكين يأتي في صلب حماية مصالح بلدان المنطقة، على قاعدة تحقيق التوازن في العلاقات الدولية.
ad
على خلفية هذا المشهد للموقف الأميركي الملتبس من قضايا الإقليم، تأخذ زيارة الرئيس الصيني للمملكة، والبرنامج الحافل الذي أحاط بها، طابعًا استراتيجياً مهماً، أبعد ما يكون عن رسميات الزيارات البروتوكولية الفارغة من أي مضمون جدّي، وسيكون لها ما بعدها في المراحل المقبلة. وذلك دون التقليل من أهمية الكلام السعودي في الحرص على الإحتفاظ بالتحالف الإستراتيجي والعلاقات التاريخية مع الولايات المتحدة الأميركية.
ولكن أين كان لبنان في خضم مناقشات القمم الثلاث التي ترأسها ولي العهد السعودي وشارك فيها الرئيس الصيني ؟
الواقع أن مجرد توجيه الدعوة لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لحضور القمة العربية ــ الصينية، وعقد لقاءين مع الأمير محمد بن سلمان والرئيس جينبنغ، هي مؤشرات إيجابية على بدء خروج لبنان من حالة العزلة العربية التي أحاط نفسه بها، بسبب إنحراف العهد المنصرم عن الصف العربي، وجنوحه نحو المحور الإيراني.
ولكن من السابق لأوانه الرهان على عودة المساعدات العربية قبل إنتخاب رئيس الجمهورية، وتشكيل الحكومة الإصلاحية المطلوبة، وذلك لا يتم إلا عبر توافقات خارجية، تأخذ في الإعتبار بعض التفاهمات الداخلية، ولكنها لا تُقيم وزناً لما يسميه البعض «ممراً إلزامياً لرئاسة الجمهورية»!
وهذا يعني أن على اللبنانيين إنجاز تعهداتهم في الإصلاح وإستئصال سرطان الفساد، قبل توقع وصول قرش واحد من الأموال المرصودة لمساعدة لبنان على الخروج من مهاوي الإنهيارات الراهنة.
المهم أن ترؤس الأمير محمد بن سلمان للقمم الدولية التي تشهدها الرياض تباعاً، يؤكد أن القيادات المخلصة تستطيع أن تعزز مكانة الوطن، وتحقق الكثير من الإستقرار والإزدهار وتحسين مستوى الحياة لشعبها.
وشتّان بين السعودية المتربعة على القمة.. ولبنان المنهار والغارق في العتمة!