لن يتلمّس اللبنانيون في الأسابيع وربما الاشهر المقبلة اي متغيرات سعودية تجاه الوضع في لبنان عَدا من مساعداتها الاجتماعية والانسانية، فما انتهت إليه مشاركة رئيس الحكومة نجيب ميقاتي في القمة الصينية ـ العربية واللقاء الذي جَمعه بولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لربما عكسا النية لدى الآخير بإمكان ان يولي الوضع اللبناني جزءا من همومه الخارجية. ومردّ ذلك الى الجهود التي بذلت ولا سيما منها جهود الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون. فهل تجاوزت جهوده فتح هذه النافذة بين الرياض وبيروت؟
منذ أن فتحت المبادرة الكويتية التي قادها وزير خارجية الكويت الشيخ أحمد ناصر المحمد الصباح مطلع العام الجاري كوّة صغيرة لترتيب العلاقات بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي عموما والمملكة العربية السعودية تحديدا، لم تسجل اي مبادرة يمكن الحديث عنها للتقدم بخطوات ايجابية تمهّد لعودتها كما كانت عليه لعقود خَلت، وخصوصاً الى المرحلة التي سبقت اكتشاف مسلسل أعمال تهريب الممنوعات والمخدرات الى المملكة وبعض دول الخليج العربي التي قادت الرياض الى مقاطعة الإنتاج والصناعات الزراعية اللبنانية والبدء بفرض عقوبات تجارية قاسية مطلع خريف العام 2021. وبقي الوضع على ما هو عليه من تردّد وتشكيك بالاتجاهات السياسية الخارجية للبنان متهمين ايّاه بتبنّي كل السيناريوهات التي يوحي بها «محور الممانعة» في المنطقة وفي اليمن، خاصرة الخليجيين خصوصاً، وصولاً الى اتهام «حزب الله» بالسيطرة على الحكم في لبنان.
كان ذلك قائماً بطريقة مباشرة لا لبس فيها، وقد تجلّت بأفضل مظاهرها في العام الاخير من ولاية الرئيس السابق للجمهورية العماد ميشال عون حيث ارتفعت نسبة الحراك الديبلوماسي السعودي في بيروت بوجهه الإنساني والاجتماعي عبر التفاهم الثلاثي ممثّلاً بالسفير وليد البخاري ومعه كل من السفيرة الاميركية في بيروت دوروتي شيا ونظيرتها الفرنسية آن غريو، وهو ما ترجمته أعمال الصندوق المشترك الذي انطلق بدايةً بمساعدات طبية وتربوية واجتماعية بسبعين مليون يورو عدا عن المساعدات التي قدمتها واشنطن للجيش اللبناني وفي مجالات انمائية ومائية وكهربائية وزراعية وصناعية عبر مؤسساتها الانمائية، وتلك الفرنسية في قطاعات مختلفة بالشراكة مع الايطاليين والبريطانيين والسويسريين ومجموعة الدول الاسكندينافية كما الاتحاد الأوروبي.
تزامناً مع كل هذه المبادرات المتفرقة التي خصّصت للبنان في مواجهة نكبة بيروت الناجمة من تفجير المرفأ في 4 آب 2020 وفي مواجهة جائحة «كورونا»، خصّص الكويتيون جهدا كبيرا لترميم العلاقات بين لبنان ودول الخليج العربي وشاركَ لبنان الى جانبهم في اكثر من مناسبة لعل ابرزها التي شهدها «منتدى الدوحة الإنمائي» الذي شكّل اولى المناسبات لحضور رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الى جانب الوفد السعودي في 26 آذار 2022، ولكن ذلك لم يسمح له بلقاء اي مسؤول سعودي على الرغم من التقدم الذي أحرزته الكويت قبل اربعة اسابيع تقريباً في اللقاء التشاوري الدوري بين وزراء الخارجية العرب الذي عُقد في نهاية شباط الماضي، حيث أعلن عن الوثيقة التاريخية التي حملت اسم وزير خارجية الكويت الهادفة لوضع الإطار لتصحيح العلاقات وترميمها وإحياء الثقة بين لبنان ودول مجلس التعاون الخليجي.
وامام مضمون هذه الوثيقة أثبتت الاشهر التي تلتها انّ لبنان لم يتمكن من تحقيق النقاط المهمة منها، خصوصاً تلك التي تتعلق بوقف الحملات الاعلامية على المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي وإقفال المؤسسات الاعلامية الفضائية اليمنية التي تبثّ من بيروت، فتعثرت الخطوات والتعهدات اللبنانية السياسية والديبلوماسية المطلوبة بإلحاح. لكن لبنان قدّم في المقابل اكثر من مبادرة لإثبات حسن النية عبر لجم اعمال التهريب، فكشفت شبكات التهريب عبر الرمان والليمون والشاي والشوكولا المخدر وغيرها من الأساليب التي اعتمدت لإمرارها من مرفأ بيروت في اتجاه بعض الدول الافريقية التي شكلت محطات عابرة على الطريق المؤدية الى الكويت والامارات العربية المتحدة والسعودية، وهي عمليات لقيت تقديرا كويتيا وإماراتيا وترددا سعوديا في التعبير عن ردات الفعل الايجابية لإعادة الوضع الى ما كان عليه بين بيروت والرياض.
وعلى وقع هذه المبادرات المحدودة في مفاعيلها الايجابية كانت الديبلوماسية الفرنسية ما زالت قائمة من أجل مساعدة اللبنانيين على تجاوز أزماتهم. وعلى وقع الرعاية الأميركية ـ الفرنسية لترسيم الحدود البحرية بين لبنان واسرائيل جاءت المهلة الدستورية المخصصة لانتخاب الرئيس العتيد للجمهورية قبل ستين يوما على نهاية ولاية عون، لتُعطي هذه المبادرة زخمها القوي من دون أي نتيجة عملية. فعبرت هذه المهل من دون إنجاز المهمة التي ارتبطت بها مختلف المحطات الخاصة بتنظيم العلاقات بين لبنان ودول الخليج العربي والعالم الغربي كما على المستوى الدولي والأممي. فمشاريع التفاهمات التي عقدت مع الدول والمؤسسات المانحة وصندوق النقد الدولي وتلك التي يجري التحضير لها مع البنك الدولي لتمويل خطة استجرار الغاز المصري والكهرباء الاردنية باتت رهناً بإحياء المؤسسات الدستورية في لبنان، وأبرزها إنهاء حالة خلو سدة الرئاسة من شاغلها لتنتظم الحياة في المؤسسات الدستورية ويكتمل عقدها الى جانب بعض الإصلاحات في قطاع الطاقة والإدارة واعادة هيكلة المصارف ووضع قانون الكابيتال كونترول والهيئة الناظمة لقطاع الطاقة.
والى هذه المحطات بما لها وعليها من واجبات لم يتمكّن لبنان من إمرار أي منها حتى اليوم، شددت المبادرة الفرنسية على مساعدة لبنان بالتعاون والتنسيق مع الاميركيين والفرنسيين من دون إغفال دور الفاتيكان الذي ساندها من الخلف. فقد سعى الفرنسيون بكل قواهم مستندين الى حملة ديبلوماسية ناشطة الى التفاهم على رئيس جامع للجمهورية يمكنه ان يعيد فتح قنوات الحوار مع الخارج من دون ان يتجاهل ما لإيران من دور في العملية السياسية ممثّلاً بالقوة الاساسية لـ«حزب الله» في الداخل ومعه حركة «أمل» التي يكتمل بها عقد «الثنائي الشيعي». وكل ذلك دفعَ بماكرون الى ملاحقة القيادة السعودية من مؤتمر الى مؤتمر الى ان عقدت القمة الفرنسية مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان على هامش «قمة بانكوك» قبل ان يكمل مهمته بداية الشهر الجاري مع نظيره الاميركي جو بايدن.
على هذه الخلفيات وكنتاج أوّلي لهذا الحراك الفرنسي وحصيلته الاساسية، جاءت مجموعة القمم الصينية في الرياض نهاية الأسبوع الماضي على المستوى السعودي والعربي والخليجي أفضل مناسبة لأولى الخطوات التي يمكن ان تعيد المملكة لتلعب دورها في لبنان. فكانت الدعوة التي وجّهت الى الرئيس ميقاتي للمشاركة فيها تعبيرا عن اولى الخطوات التي تعهدت بها الرياض لا اكثر ولا اقل. لأنّ مصير ما يليها من الخطوات المفيدة المقبلة بات على عاتق اللبنانيين، ولمَن أراد مزيدا من التفاصيل عن جدول الأعمال المطلوب ما عليه سوى العودة الى مضمون البيان الاخير لقمة مجلس التعاون الخليجي والقمة الصينية – السعودية تحت عنوان لبنان. فقد قالت كلمات مكررة مَلّها الخليجيون واللبنانيون بعدما استُنسِخت عن القمم الخليجية ـ الخليجية السابقة والخليجية – الروسية والفرنسية والأميركية طوال السنة الماضية، ففيها كلمة السر والكلمات المفتاحية للحل. فهل ستنتعش ذاكرة اللبنانيين لإتمامها كاملة بنقاطها وفواصلها؟