لا يتعلّق الأمر بمكان الاحتفال، على أهميته، ولا بحجم المشاركة، ولا بالتهافت الصادق أو المتملّق الذي يسجّل عادة في احتفالات المملكة. لا يتعلق الأمر بالخطابات الرنانة، ولا بالكمّ الهائل من العبارات التفخيمية، ولا بالرغبة في الظهور لدى البعض بمظهر المزايدين على حبّ المملكة، أكثر من مواطنيها.
لا يتعلّق الأمر بمشاعر الصدق أو الانتهازية والبزنس، لا يتعلق الأمر بحجم العمالة اللبنانية في المملكة، التي تضخ للبنان أوكسيجيناً مصيرياً من العملات الصعبة، والتي لولاها، لتضاعف حجم الكارثة الاقتصادية.
لا يتعلّق الأمر بمشهد الممانعة المتناقضة، التي يعمل أنصارها في المملكة آمنين، ولا يتعلّق الأمر بالممانعة المسيحية «البرتقالية»، التي لعبت دور رأس الحربة في تشوية صورة السعودية، نيابة عن «حزب الله» وبتكليف منه.
لا يتعلّق الأمر، بالشعور الآمن لأكثر من مئتين وخمسين ألف لبناني، يعملون في السعودية، جزء منهم أكل منه الصدأ العوني كل مأكل، فاستمروا في الرياض وجدة و»نيوم»، يعملون آمنين، أمّا عند عودتهم إلى لبنان، فهم ينفشون ريشهم قرب الرئيس السابق ميشال عون، مربحين السعودية «جميلة» بأنّهم بناة مداميكها.
لا يتعلّق الأمر برغبة مئات آلاف الأسر السعودية، بالقدوم إلى لبنان في فصل الصيف، إلى برمانا وبحمدون وحمانا، وسائر قرى الاصطياف، يأتون بشغف، يعيشون بين أهلهم، ينعشون اقتصاد البلد الذي حوّلته إيران إلى ركام.
الأمر يتعلّق بكلمة سحرية لها طابع الاستمرارية: السعودية ترى في لبنان قيمة كبيرة، ولذلك كانت عبر تاريخها، المدافع الأول عنه، والمحافظ على وحدته.
الأمر يتعلّق بقناعة وإيمان، منذ تأسيس المملكة على يد الرعيل الأول ثم الثاني والثالث، بأنّ هذه الجنة الخضراء خلقت لتبقى، فاستثمرت السعودية في الاستقرار اللبناني، ووقفت بوجه الموجات العاتية، التي أصابت البلد الصغير، في الحقبة الناصرية والأسدية والعرفاتية، مع تسجيل الفوارق الجمة بين الحقبات الثلاث.
أمّا في حقبة الوصاية الإيرانية، فكانت المملكة الصديق الكبير، الذي لم يترك للصدف أن تعمل، فبادر وقاتل وتعرّض لأبشع التهم، وتلقى أفدح الخسائر، كي تبقى هذه الجنة الخضراء، على قيد الحياة.
لكل هذه الأسباب اختار سفير المملكة وليد البخاري، وسط بيروت لإقامة احتفال اليوم الوطني السعودي. للمكان رهبة وروعة: إنّه القلب، والرياض كانت في قلب بيروت وستبقى، لأنّ عوامل الاستقرار في لبنان، مرتبطة، باتصال لا بدّ أن يكون كاملاً، بين الطاقات المتفجّرة لجيل لبناني سباق، وبين رؤية أرادها الأمير محمد بن سلمان، سباقاً إلى ما بعد العام 2050.
في «نيوم» مشهد ينبئ بعشرات الأعوام المرشّحة القادمة للريادة، وفي عواصم النفوذ الإقليمي، ظلامية تنشر رعب الميليشيات والفوضى، وتختبئ خلف إيديولوجيا مذهبية وتوظّفها، وتنتشي بالصواريخ تحت أنظار الأفواه الجائعة. الصورة منقسمة إلى نصفين: فرح في قلب بيروت، رغماً عن الوصاية، ولون أسود في عواصم النفوذ، يلقي بثقله على المستقبل. إنّه الفرق الحضاري الذي يسهم محمد بن سلمان في تعميق الفجوة بين طرفيه.