IMLebanon

الأنظار إلى الرياض

 

 

ليس خافياً على أحد انّ باريس تعمل لتشكيل حكومة، وتحاول ان تحشد أوسع دعم ممكن لمبادرتها في هذا الإتجاه، دولياً ولبنانياً، ولكن الأساس يبقى في موقف واشنطن والرياض.

لم يتمكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون من ترجمة مبادرته على أرض الواقع، على رغم قيامه بزيارتين متتاليتين إلى لبنان، لأنّه في كلِّ مرة كان يقترب فيها من تأليف الحكومة، كانت العقوبات الأميركية جاهزة لتوجيه رسالة تؤشر، وكأنّ هناك عدم رضى أميركي على هذه المبادرة، الأمر الذي ولّد انطباعاً بأنّ الإدارة السابقة، التي لم يكن ماكرون على علاقة جيدة معها، لا تريد لمبادرته ان تنجح في لبنان، فوضعت أمامه العراقيل والمطبّات.

 

ومع انتخاب الرئيس جو بايدن، ومن ثمّ دخوله إلى البيت الأبيض، كان ماكرون من أكثر المتحمسين والمرحبين، نظراً للصداقة بينهما أولاً، ورهانه على عودة التنسيق بين واشنطن وباريس ثانياً، وتقصّد ان يوجّه أكثر من رسالة على إثر مكالمتهما المطوّلة، وفي طليعتها حصوله على تفويض أميركي بإدارة الملف اللبناني، فأعاد بعد هذا الاتصال تشغيل محركاته واتصالاته من أجل فكّ العِقَد المتبقية لتأليف الحكومة.

 

فالإنطباع القائم اليوم، انّ واشنطن تهيئ ملفاتها، وانّ المساعي الباريسية لن تصطدم بأي عوائق أميركية، أقلّه في هذه المرحلة التي تحاول فيها توظيف العلاقة الجيدة مع واشنطن، توسيعاً لدورها ليس فقط في لبنان، إنما على مستوى الشرق الأوسط، وهذا ما دفع رئيسها إلى طلب ضمّ الرياض إلى اي مفاوضات نووية مقبلة مع طهران.

 

فإذا كان قد نجح ماكرون في تحييد الولايات المتحدة عن لبنان، أقلّه في هذه المرحلة، فماذا عن المملكة العربية السعودية التي يزورها منتصف الشهر الحالي، للقاء الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمير محمد بن سلمان؟ فهل ستتجاوب مع طلبه منح باريس فرصة لإدارة الملف اللبناني، بمعنى، هل ستعيد تطبيع علاقاتها مع لبنان، ودعمها لرئيس الحكومة الجديد، واستقباله في الرياض، ودعم لبنان سياسياً ومالياً واقتصادياً؟

 

فالإجابة عن هذا السؤال تختصر كل مستقبل الوضع الحكومي، ومن دون التقليل من أهمية أي عاصمة عربية أو غربية، ولكن ما لم يُستقبل رئيس الحكومة العتيد في الرياض من قِبل الملك وولي العهد تحديداً، فإن شرعية اي رئيس حكومة ستبقى منتقصة، حتى لو زار كل عواصم العالم، كما دعم الحكومة ولبنان سيبقى ثانوياً وهامشياً ما لم يأتِ الدعم من الرياض واستطراداً الخليج.

 

وبإمكان الرياض ان تستقبل رئيس الحكومة، وان تعتذر عن دعمها لبنان، وان تشترط خطوات محدّدة لإحياء هذا الدعم، إلّا انّ السعودية تحولت لمجموعة أسباب واعتبارات إلى المرجعية السنّية الأولى في العالم العربي، وما لم يحز رئيس الحكومة على ثقتها، فإنّ شرعيته ستبقى منتقصة، كما انّ الرياض هي مفتاح دعم الدول الخليجية للبنان مادياً، وما لم تقرّر إحياء هذا الدعم، فعبثاً البحث عن اي دعم آخر، في ظلّ الأزمات التي يشهدها العالم على أكثر من مستوى.

فمحور الممانعة «كحيان»، ولم يسبق ان ساعد لبنان أساساً، وكل مساعداته، والمقصود طبعاً طهران، تقتصر على تمويل «حزب الله» لا الدولة اللبنانية، ولا يمكن توقُّع وانتظار اي شيء على هذا المستوى، والدليل الأزمة الحالية التي أحوج ما يكون فيها لبنان إلى مساعدات، ولم يجد إلى جانبه هذا المحور الذي ينحصر اهتمامه بتمويل ميليشياته على مستوى المنطقة، وكل نظرته إلى لبنان هي استخدامه كساحة لرسائله لا كدولة بحدّ ذاتها.

 

وفي موازاة الدعم السعودي المادي والمعنوي الأساسي لأي معالجة للأزمة المالية اللبنانية، فإنّ المجتمع الدولي يشترط بدوره أساساً الإصلاحات كمدخل للمساعدات، وأي إصلاحات في حال نجحت الحكومة العتيدة بإقرار رزمة منها، وهو مستبعد كلياً، لن تأتي هذه المساعدات قبل سنة وحتى سنتين، وبالتالي، كيف يمكن ان يصمُد لبنان في غياب المساعدات المادية الفورية من قِبل الرياض وعواصم الخليج، وبانتظار المساعدات الدولية بعد تنفيذ الإصلاحات اللبنانية؟

ولكن السؤال الأبرز يبقى الآتي: هل ستنجح باريس بانتزاع تفويض سعودي على غرار الأميركي لبنانياً؟ وهل تعتقد باريس انّ دعوتها لإشراك الرياض في مفاوضات النووي كافية لتليين الموقف السعودي حيال لبنان؟

 

تدرك باريس طبعاً، انّ خطوة تأليف الحكومة متى تحققت غير كافية، وانّ الأساس يبقى في توفير المساعدات المالية الفورية للبنان، تزخيماً للمبادرة الفرنسية، وتدرك أيضاً انّ الباب الأساس لهذه المساعدات هو الرياض، التي لا يبدو انّها في وارد تغيير موقفها حيال لبنان، والذي لم تتخذه إلّا بعد سنوات وسنوات من المراجعة والشكوى من أداء «حزب الله» وموقف لبنان الرسمي، وأي تبدُّل في موقفها سيكون رهن تبدُّل السياسة اللبنانية وليس قبل ذلك، كما انّها لن تكون في موقع منح جوائز ترضية لأحد.

 

وتلتقي واشنطن والرياض على مسألة أساسية، وهي انّ إفساح المجال أمام ماكرون لرعاية تأليف الحكومة، لا يعني إطلاقاً ضمّ جهودهما إلى جهوده، إنما تركه يتدبّر شأنه وأمره، فيما لا الرياض في وارد العرقلة أساساً، وهذا ليس أسلوبها، إنما تنأى بنفسها كما هي الحال اليوم، ولا واشنطن في وارد المساعدة ولا العرقلة، وترحيل التأليف إلى ما بعد خروج الرئيس ترامب من البيت الأبيض هو تدبير لبناني وقائي من بعض القوى السياسية، تجنباً لعقوبات محتملة.

 

وقد تُقنع الرياض الرئيس ماكرون، لا العكس، بأنّ أي حلّ للمسألة اللبنانية غير ممكن قبل احتواء الدور الإيراني، لأنّ قرار «حزب الله» ليس في الحكومة اللبنانية، إنما في طهران، ولا يمكن انتزاع اي تعهُّد من لبنان الرسمي بعدم شنّ الحملات على السعودية، التي لم تعتمد سياسة النأي عن لبنان سوى بعد سنوات من المراجعات، وبعدما أيقنت العجز المتمادي عن منع الحزب من تحويل لبنان إلى منصّة ضدّ السعودية.

 

فقد تنجح باريس في تشكيل الحكومة اللبنانية، ولكن هذا النجاح يبقى تفصيلاً أمام ثلاث حقائق أساسية:

الحقيقة الأولى، انّ المساعدات الفورية السعودية، واستطراداً الخليجية، تشكّل وحدها تعويماً للمبادرة الفرنسية، وما لم تأتِ هذه المساعدات فإنّ الأزمة المالية ستراوح.

 

الحقيقة الثانية، انّ المجتمع الدولي اشترط الإصلاحات مقابل المساعدات، والحكومة لن تتمكن من إنجاز أي إصلاح يُذكر، لأنّ الإصلاح يتناقض مع طبيعة الفريق الحاكم وعلّة وجوده، وما لم تتمكن الحكومة المستقيلة من إنجازه، لن تتمكن الحكومة العتيدة من تحقيقه.

 

الحقيقة الثالثة، انّ العدائية التي ظهرت بين القوى المؤلفة للحكومة ستظهر عند كل مفترق وملف وقضية، فعامل الثقة مفقود، وحسابات ما بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون هي الطاغية عند الجميع، والخلافات التي وصلت إلى حدّها وأقصاها إبّان التأليف، ستتكرّر وتكون القاعدة لا الإستثناء.