بعد ستة أشهر على إطلاقها، اصبح مصير المبادرة الفرنسية مثل مصير الحكومة، كلاهما معلق ويحتاج الى إنقاذ، والى انتظار نتائج المسار الأميركي الإيراني، فيما سجل الانهيار الاقتصادي والاجتماعي في لبنان مستوى قياسياً جديداً. وبحسب متصلين بدوائر ديبلوماسية في باريس، فإن الملف اللبناني لا يحضر على الطاولة الفرنسية منذ وقت، ولا أحد في هذه الدوائر يتوقع أن تُسجَّل في وقت قريب أي خطوة استثنائية تسهم في حلحلة العقد المتداخلة. ذلك ان باريس كانت تفترض ان يتحرك مسار مبادرتها على خط إقلاع الادارة الاميركية الجديدة في ملف ايران النووي توازياً مع الضغط الاوروبي. لكن هذا المسار لا يزال في بداياته. في المقابل، وضعت ثقلها بعد اصطدام تحرك الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون بالعقبات اللبنانية، في الإعداد لمبادرة تجاه السعودية لإحداث خرق يبدأ بإعادة تأمين الرضا السعودي مجدداً على الرئيس سعد الحريري، وينتهي بالعودة السعودية السياسية والمالية الى لبنان. كانت زيارة ماكرون للرياض متوقعة في نهاية شباط الفائت، ثم أرجئت الى آذار الحالي، من دون تحديد موعد نهائي لها، وسط كلام عن تعثر جدول الاعمال بينهما، نتيجة اختلافات في الرؤية حيال المواضيع الاقليمية.
لكن تقرير الاستخبارات الاميركية حول مسؤولية ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عن قتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي، من شأنه أن يقلب المواعيد مجدداً. فوزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان دان العملية بحدة حينها، وفرنسا طالبت السعودية في موقف مشترك مع المانيا وبريطانيا توضيح ما حصل حقيقة يوم قتل الخاشقجي. أما ماكرون فرفض طلب المانيا كما الضغط الفرنسي الداخلي لوقف مبيعات الاسلحة للرياض، مميّزاً بين الادانة ووقف الصفقات، قبل ان تنكشف الحقيقة ويتبين فعلاً من ارتكب الجريمة. لكن التقرير الاميركي صدر باتهام واضح، رغم انتقادات أميركية وأوروبية له بأنه لم يحمل أدلة ملموسة، بل وجّه اتهاماً عاماً، وقوبل بردود فعل سعودية رافضة، لكنه سلط الضوء على ولي العهد في شكل غير مسبوق، وهذا من شأنه ان يُحدث إرباكاً فرنسياً.
ومهما كان اتجاه واشنطن في طريقة تعاملها مجدداً مع ولي العهد، في ظل سياسة متأرجحة تجاه المملكة حتى الآن، فإن فرنسا تجد نفسها في مكان مختلف تماماً، لأن تعامل الوسط الفرنسي الاعلامي والسياسي والثقافي مع أي حدث من هذا النوع، سواء الجريمة أم اتهام ولي العهد، يختلف تماماً عن التعامل الاميركي، كما اختلاف تأثر السلطة السياسية بهذا الجو الضاغط إعلامياً وسياسياً؛ إذ ما كاد التقرير يصدر حتى عاد الكلام السياسي والاعلامي الفرنسي عن ضرورة وقف بيع الاسلحة للرياض وطرح احتمالات بشأن اتخاذ عقوبات ضد المتورطين، وأسئلة عن كيفية التعامل مع ولي العهد، الذي التقى ماكرون اكثر من مرة.
ورغم أن باريس، التي تغزل علاقة متوازية مع ايران، وجدت الرياض متفهمة للتوضيحات التي قدمت اليها في شأن تصريحات ماكرون بعد ذبح المدرس الفرنسي صاموئيل باتي، ولا تزال تقف الى جانبها في معركة «استهدافها بصواريخ الحوثيين»، بعدما عملا على تنسيق مشترك في قضايا إقليمية وصفقات، الا ان ثمة تردداً فرنسياً حيال صورة ماكرون التي قد تجمعه مع ابن سلمان «المتهم بجريمة»، ومدى انعكاس ذلك على مستقبله كمرشح رئاسي لولاية ثانية، لأن الاعتبارات الداخلية باتت هي اليوم الاكثر تأثيراً في مسار الرئيس الفرنسي، بعد تعثر مواجهة حكومته للملفات الداخلية. هذا كله يضفي ضبابية إضافية على المبادرة الفرنسية تجاه لبنان، لأن جزءاً أساسياً منها مبني على احتضان عواصم أساسية، كالسعودية، للحكومة المقبلة، برئاسة الحريري، خصوصاً أن الشق المالي في مواجهة الازمات الاقتصادية والمالية، يوازي في أهميته شكل الحكومة التي كان يفترض أن تبصر النور قبل أن تلغى زيارة ماكرون الثالثة الى لبنان. وقد يكون من سوء حظ الحريري، الذي زار الإليزيه أخيراً على أمل الحصول على دفع إيجابي، أن تتزامن جملة تطورات إقليمية ودولية تحيط بالرياض، مع تعثر المبادرة الفرنسية، ما يمنع حصوله مجدداً على الغطاء السعودي، علماً بأن لا أحد من المطلعين على الجو السعودي كان على ثقة بأن فرنسا ستحصل على ما تريده من الرياض من تغطية لحكومة تضم حزب الله. كذلك هم لا يولون أهمية كبيرة لنتائج عودة السفير السعودي وليد البخاري الى بيروت وحركة لقاءاته المكثفة، التي أعطت انطباعاً خاطئاً بأن الرياض خففت من حدة موقفها المتخلي تماماً عن التدخل في الشأن الحكومي. وما حصل من إحاطة سعودية بتطورات الأيام الأخيرة وخطابات مرتفعة اللهجة ضد حزب الله، مؤشر يفترض أن تكون الرسالة وصلت من ورائه.