تطرح المظاهرات الشعبية الاحتجاجية في لبنان والعراق تساؤلات حول السبب الذي دفع اللبنانيين والعراقيين للنزول إلى الشارع لإجبار الحكومتين في البلدين على الرحيل. وفي مقدّمة الأجوبة يأتي عنوان الفساد وروائح الصفقات والهيمنة والتسلّط والمحاصصة بين المسؤولين، وذلك بصرف النظر عن الانتماءات الطائفية والمذهبية والحزبية.
فالإصلاحات التي يطالب بها الشارع العراقي، تنطلق من قانون انتخابي إصلاحي يلبّي تطلّعات المواطنين الذين تزدحم بهم ساحات المحافظات التي انطلقت منها حركة الاحتجاج، ولا تنتهي مع إجراء انتخابات نيابية خالية من أي تزوير أو تدخّلات، وتتمتّع بالشفافية، مع العلم أن تجاهل بناء الدولة العراقية الحديثة، والذي برز كتوجّه عام في السنوات الماضية، قد كشف أن الأولوية لدى السلطة هي للبقاء ولتحصيل المكاسب، ولو أن هذا الأمر أتى على حساب إهمال بناء مرافق الدولة ومؤسّساتها السياسية والقضائية والإدارية والخدماتية والتعليمية.
وفي لبنان أيضاً، اقتحمت الانتفاضة الشعبية الحلقة الأساسية للقرار السياسي اللبناني كلاعب من خارج الاصطفافات السياسية التقليدية الداخلية، بصرف النظر عن الحسابات الطائفية والمذهبية والسياسية حيال المرحلة الطالعة، الأمر الذي دفع بالرئيس سعد الحريري إلى الاندفاع نحو الخروج أولاً من الحكومة مع إعلان استقالة حكومته، وثانياً من التكليف مجدّداً بتشكيل الحكومة بعدما تمّت معارضة توجّهاته بتأليف حكومة اختصاصيين مستقلة عن التمثيل السياسي والحزبي، مع العلم أن تكليف الرئيس حسّان دياب بتولّي هذه المهمة واجه العراقيل والعقبات المرتبطة بالمعايير التي يجري على أساسها تأليف الحكومات في لبنان منذ اتفاق الطائف، وهي دائماً المحاصصة.
يشار في هذا السياق، إلى أن إقامة نظام رديف أدّى إلى تجويف اتفاق الطائف وإفراغه من محتواه، مما شكّل العامل الأساسي وراء الانتفاضة الشعبية في لبنان، كما أن سياسة الإنكار والتشكيك والتهويل بإطالة أمد الأزمة الحكومية والفراغ، لم تؤدِّ إلا إلى إشعال هذه الانتفاضة.
كذلك، فإن ممارسة تَرَف الضغط في التفاوض على حافة الهاوية، تُسرّع الانهيار المالي والاقتصادي ولا تلجمه، وذلك رغم كل التطمينات المتوالية من قبل المرجعيات السياسية والمالية على حدّ سواء.
في المقابل، فإن التعديل الحكومي لو تمّت مقاربته بموضوعية منذ انطلاقة الانتفاضة الشعبية، كان سيكون أقلّ كلفة مما يواجهه لبنان باستقالة الحكومة، وصولاً إلى تأخير تأليف حكومة جديدة، لأن الهيئات الاقتصادية كان سبق أن حذّرت منذ عام 2002، من خطورة ما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان، فيما لو استمرّت الخلافات السياسية، وبقيت الساحة اللبنانية خارج نطاق التعاطي والاستجابة مع كل النصائح والتحذيرات الدولية والعربية من المصير الحتمي الذي سينتج عن استمرار الهوّة ما بين الشعب والسلطة.
ولكن، ورغم تأخّر المعالجات، فإن الفرصة لا تزال سانحة لتحقيق الإصلاح الشامل المالي والإداري والسياسي، وتحريك عملية النمو والتنمية.
ومعلوم أنه عند كل محطة مصيرية واجهها لبنان كانت المملكة العربية السعودية إلى جانبه تدعمه على كل المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فللمملكة دور محوري في تعزيز دعائم استقرار لبنان في كل المراحل، بدءاً من الدور الرئيسي في إنهاء حالة الحرب الأهلية نتيجة اتفاق الطائف، فَنَسَجت علاقات تاريخية طويلة ونموذجية على المستويين الرسمي والشعبي.
وليس الإجماع الذي يتأكد في كل يوم، وعند كل استحقاق، حول الدور السعودي الثابت رغم كل التطوّرات، سوى المؤشّر على عمق العلاقات اللبنانية – السعودية، وعلى استحالة كسر التاريخ المشترك الذي يستمر فصولاً في مراحل السلم، كما في مراحل الحرب، وكذلك في مراحل الأزمات التي تعصف بلبنان منذ سنوات، ولا سيما الأزمة الأخطر التي يمرّ بها اليوم.
وفي اللحظة الدقيقة التي يمرّ بها اللبنانيون، يتطلّعون إلى كل دعم ممكن من أشقائهم العرب، وفي مقدّمهم المملكة العربية السعودية، التي لطالما أعلنت على لسان قادتها وشعبها الوقوف إلى جانب الشعب اللبناني على مختلف مشاربه، ومن دون أي تفرقة، وذلك في ضوء التأكيد على استمرار التوجّه النوعي في التعاون بين البلدين من خلال الاتفاقات والمعاهدات المعقودة على مدى السنوات الماضية، في إطار تفعيل التعاون المشترك ضمن سياق مؤسّساتي جديد بدأ إرساؤه في العلاقات الثنائية، والذي من شأنه أن يزيد هذه العلاقات متانة ورسوخاً.
فالمملكة كانت دائماً إلى جانب لبنان، وترجمت دعمها من خلال دورها البارز في إنجاح مؤتمر «سيدر» في باريس، كما في مؤتمر روما في إيطاليا، والذي خُصّص لدعم الجيش اللبناني وقوى الأمن الداخلي. واليوم، وبينما كل الأنظار في لبنان تتركّز على مؤتمر «سيدر» رغم التأخير اللبناني في الإصلاحات، يتطلّع اللبنانيون إلى هذا الدعم الذي سينقل الاقتصاد اللبناني من مرحلة صعبة إلى مرحلة من النمو. وبالتالي، فإن المصلحة اللبنانية الأولى، تقتضي بأن تكون علاقاته بالمملكة العربية السعودية، كما هي بكل دول مجلس التعاون الخليجي، في أحسن حالاتها، وذلك بهدف تنقية الشوائب التي اعترتها في الآونة الأخيرة.
فلبنان هو المتضرّر الأكبر من أي تراجع قد يصيب العلاقات الثنائية بين البلدين، خصوصاً أن لبنان لن يتخلى عن محيطه العربي، ويؤكد بشكل يومي على التمسّك بالدور السعودي، في ضوء كل خطوات الدعم التي أعلنت عنها الرياض، ولم تتأخر يوماً في تطبيقها، نظراً للمكانة المتميّزة التي يحتلها لبنان والشعب اللبناني لدى المملكة قيادة وشعباً.
ومن هنا، فإن اللبنانيين مدعوون إلى تغليب المصلحة الوطنية والعيش المشترك على ما عداها من مصالح أخرى، لإبقاء لبنان بعيداً عن النيران المشتعلة في المنطقة، وذلك في إطار الحفاظ على عروبته، والالتزام بسياسة «النأي بالنفس» فعلاً وواقعاً، ليبقى لبنان بعيداً عن تداعيات الصراعات الإقليمية والدولية المحتدمة في المنطقة، والتي لا قدرة للوطن الصغير على تحمّل مضاعفاتها. وفي هذا المنحى يأتي الدعم السعودي غير المشروط له ليكون الدرع الواقية في كل المحن والصعوبات بهدف تمكينه من استعادة دوره العربي، وهو المؤسّس في جامعة الدول العربية.