Site icon IMLebanon

“رؤية سعودية” في مواجهة أكثر من “رؤية دولية”

 

ليس من المحتّم ان يتوصّل الساعون الى قراءة الموقف السعودي تجاه ما يجري في لبنان الى تغيير في حال الإهمال واللامبالاة التي عبّرت عنها الرياض. فللمملكة على ما يبدو موقف ثابت، لم ولن يتأثر حتى الساعة بالمساعي الغربية والعربية. وانّ العودة الى مسلسل التجارب السابقة يؤكد ان لها رؤية مستقلة في مواجهة اكثر من رؤية دولية تتجاوز تمنيات الاطراف كافة ورغباتهم. وهذه هي بعض الدلائل؟

 

يُفتَرض بمَن يسعى الى تقدير المواقف السعودية السلبية المعتمدة منذ سنوات عدة تجاه أزمات لبنان المختلفة، باستثناء تلك التي اتخذت طابعاً انسانياً، ان يعود الى بعض المحطات السابقة التي عبّرت فيها المملكة عن استراتيجيتها الجديدة في لبنان بلغة واضحة وعبارات اختيرت بدقة متناهية، وان كان بعض اللبنانيين يريدون عكسها فالذنب ذنبهم. فمنذ ان تولّى الملك سلمان بن عبد العزيز شؤون الدولة تغيرت امور كثيرة، وما عزز هذا التغيير سلوكيات ولي العهد الامير محمد بن سلمان الذي لم يوفّر كثيراً من المناسبات التي أفصح فيها عن رؤيته وتوجهاته الجديدة ودور المملكة بعدما امسك بمفاصل الحكم فيها، لا سيما ما يتصل باستراتيجيتها في المجالات الداخلية قبل الإقليمية والدولية.

 

لم يعد سراً ان توغّل المراقبون في رؤية بن سلمان الابن لدور المملكة وفق رؤية 2020 ـ 2030 سيكتشف نهجا جديدا لم تعرفه بلاده من قبل، خصوصا ايام الملك عبدالله بن عبد العزيز، فقد تغيرت امور كثيرة ولا بد من ان تنعكس على مختلف وجوه الحياة في المملكة وخارجها. وعلى من يبحث عن اسباب هذا التوجه الجديد ان يتابع مسلسل المواقف التي عبّر عنها الرجل منذ تلك المحطة الى اليوم ويقرأ ردات الفعل الدولية التي رحّبت او انتقدت وواجهت في مروحة جديدة لم تتوقف بعد.

 

وإن حصر المراقبون اهتمامهم بقراءة الموقف من الوضع في لبنان عليهم أن يستمعوا الى زوار الرياض الذين حذروا أكثر من مرة من تجاهل المتغيرات الكبرى في المملكة وخارجها، وتحديداً تلك التي نجمت عن تحويل فندق «الريتز» في الرياض «محكمة مؤقتة» تحت عنوان مكافحة الفساد بدلاً من المحاكم او المؤسسات الاخرى المكلفة هذه المهمة قبل العام 2017. وعليه ايضا ان يقرأ في خلفيات ما جرى عندما اضطر الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري الى التقدم باستقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني 2017، قبل ان تنجح الوساطات الدولية بإعادته الى بيروت متعهداً، ومعه أركان الحكم، بالسعي الى تصويب السياسات الخارجية اللبنانية ولجم تدخل فئات لبنانية في الشؤون الداخلية لمجموعة من الدول العربية، والخليجية تحديداً. وهو ما عبّر عنه الحريري في البيان الشهير الذي تلاه من على منصة قصر بعبدا في نهاية أول جلسة لمجلس الوزراء عقدها بعد «استقالة الرياض» مطلع كانون الأول منذ ذلك العام، إثر عودته من جولة اوروبية أعقبَت مغادرته الرياض، والتي بقيت في نظر السعوديين حبرا على ورق.

 

ولمن لا يرغب بالعودة الى تلك المرحلة ان كانت بعيدة في رأيه، عليه العودة الى ما شهدته الأشهر الاخيرة من محاولات لإحياء الاهتمام السعودي بلبنان. وهو ما يدعو الى التوقف عند «المبادرة الفاتيكانية» التي أطلقها قداسة البابا فرنسيس منتصف حزيران الماضي، والتي ترجَم أولى خطواتها في اللقاء الذي جمعه في 29 حزيران الماضي في الفاتيكان بوزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية أنتوني بلينكن، متمنياً عليه رفع نسبة الاهتمام بالوضع في لبنان وما يعانيه، ليس نتيجة الازمة النقدية وما تركته جائحة كورونا فحسب، إنما لمواجهة التداعيات الكارثية لتفجير مرفأ بيروت وما تلاها.

 

ولا ينسى ان هذا اللقاء اطلق دينامية ديبلوماسية اميركية جديدة، تزامنت مع يوم الصلاة من أجل لبنان الذي دعا اليه البابا في 1 تموز الماضي كلّاً من البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي وبطاركة لبنان، والتي واكبها اللقاء الشهير الذي عُقد على هامش أحد المؤتمرات الخاصة بالدول الصناعية السبع في إيطاليا بين بلينكن ونظيريه الفرنسي جان ايف لودريان والسعودي فرحان بن فيصل، في محاولةٍ للقيام بمسعى ثلاثي يواكب البحث عن المخارج الممكنة للجم الانهيار الذي يهدد لبنان.

 

وإن واكبَ المراقبون نتائج المسعى الأميركي المستجِد، لا بد له ان يتذكر الورشة الديبلوماسية التي أطلقها على مستوى سفراء الدول الثلاث في بيروت، الاميركية دوروتي شيا والفرنسية آن غريو والسعودي وليد البخاري، والتي بُنيت عليها آمال كبيرة قبل ان يكتشف اللبنانيون ان هناك رؤى مختلفة لم يتلاق حولها الأطراف الثلاثة، فاستمرت المساعي قائمة من دون ان تترجمها اية خطوة تبدل من الموقف السعودي تجاه لبنان. لا بل فقد تداولت المراجع الديبلوماسية معلومات دقيقة عن مجموعة من النظريات المختلفة التي لم تخدم المسعى البابوي ولا أثمَرت النتائج التي أُريدَ لها من لقاء وزراء الخارجية الثلاثة. وعليه، فقد ظهر التباين كبيراً عندما انتقد الجانب السعودي المسعى الفرنسي تجاه لبنان على خلفية الاعتراف الذي لم يستطع إخفاءه بدور «حزب الله» وموقعه في التركيبة اللبنانية، وعلى خط المساعي المبذولة من أجل تشكيل الحكومة التي لم تر النور بعد 10 أشهر على تكليف الحريري مهمة التأليف.

 

وعليه، ومنذ ذلك التاريخ لم تغير الوساطات التي قادها ديبلوماسيون من جهات مختلفة، بمن فيهم الروس، من الموقف السعودي تجاه لبنان قيد أنملة. واكتشفَ مَن ربط بين حدة الموقف السعودي وصلابته ورفضه بما هنالك من مشاكل شخصية يعانيها الحريري في المملكة عُقم نظريته وفشله في تأكيد صوابيتها. فاعتذار الحريري لم يبدّل شيئاً في مواقف الرياض، وجاء تكليف الرئيس نجيب ميقاتي المهمة عينها ليُثبت ان ليس في كل ما جرى ما يُرضي الرياض بعدما أضافت عملية «الرمان المخدّر» وما تلاها من عمليات تهريب للمخدرات من نسبة المقاطعة السعودية التي شملت الإنتاج الزراعي اللبناني حتى اليوم. وبناء على كل ما تقدّم، لا بد من الاعتراف انّ للرياض رؤية مختلفة تناقض رؤى غربية عبّرت عنها واشنطن وباريس خصوصاً، كما بالنسبة الى العربية منها ان تطرّقنا الى مساعي مصر والإمارات العربية المتحدة لديها، وسط اعتقاد بدأ يسود عن استمرار التصلب السعودي الى أمد غير محدد.

 

وختاماً، فإنّ على من ينتظر من زيارة لودريان المملكة تحولات سعودية كبرى ان يتريث قليلاً لئلا يصاب بصدمة اضافية تضاف الى الصدمات السابقة المتتالية. فالمنطقة تغلي على وقع المفاوضات السعودية ـ الإيرانية التي اعترف الجانب السعودي باستمرارها على وقع التصعيد الايراني باشكاله المختلفة في لبنان واليمن وعلى الساحات الملتهبة، تزامناً مع ورشة المساعي الأوروبية والدولية الهادفة لإعادة طهران الى طاولة فيينا. وفي انتظار القمة الروسية – الأميركية المرتقبة التي يستعجلها البعض ما عدا موسكو، لن يتغير شيء. فالقيصر الروسي يعيش وحده نوعاً من الاستقرار في المنطقة، والذي تفتقر إليه بقية القوى الدولية الاخرى. والى تلك المرحلة علينا ان نتقن فن الإنتظار والصبر. فما لم يغير اللبنانيون ما في أنفسهم لن يتغير شيء في المنطقة، وهو امر يبدو بعيد المنال.