انقضى أسبوع على البيان الفرنسي ــــ السعودي (السبت 4 كانون الأول) من غير أن يقترن مضمونه بمؤشر إيجابي، كان لبنان يأمل حدوثه. ما تلاه أقرب ما يكون إلى أكثر من علامة سلبية. في أحسن الأحوال ليست مشجّعة ولا مطمئنة
سارع لبنان، إثر إعلان البيان الفرنسي ــــ السعودي في جدّة، الى إظهار حسن نيّة بمحاولة تطبيق أحد بنوده، وهو وقف تهريب المخدرات الى المملكة، بعقد اجتماعات وزارية لتعزيز مراقبة الحدود. لم يكن ذلك أفضل ما يملك أن يفعل. بل كل ما يسعه أن يوحي بأنه يريده. من غير المؤكد حتماً أن «الدولة اللبنانية» قادرة على التطبيق الجدّي والآمن لهذا البند حتى. ما خلاه، ليس سوى تفسيرات وتأويلات دارت من حول القراءات المتفاوتة والمتشعبة لبيان جدّة ليس إلا، سواء ما يتصل بالقرارات الدولية أو بمصير سلاح حزب الله كما بتدخّل الحزب في اليمن بالذات.
أما الإصلاحات، فشأن آخر. لا يعني السعوديين بالقدر المحسوب، ولا يعدو كونه لدى الفرنسيين سوى «قشّة» أمل. عند الطبقة السياسية الحاكمة، هو ما لن تُقدم عليه: تعليق مشنقتها.
اقتضب مرجع رسمي الساعات القليلة التي تلت المكالمة الهاتفية التي أجراها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وولي العهد السعودي محمد بن سلمان برئيس الحكومة نجيب ميقاتي، بالقول: «مصالحة بدأت بالمكالمة وانتهت بها».
في فحوى ما عناه المرجع، سواء بسبب شحّ المعلومات أو التوسّع في طرح الشروط التعجيزية، أو الغموض المتّصل بمآل ما يتضمّنه البيان الثنائي، أن الأزمة لا تزال تراوح مكانها، و«لم يحن أوان الحل والمصالحة الفعلية بعد». ليس ثمّة ما يشير الى عودة السفير السعودي الى بيروت، ولا السفير اللبناني الى الرياض، مع ان العلاقات الدبلوماسية الرسمية بين البلدين لم تنقطع. ما يصحّ القول عنها، بسحب السفير وليد البخاري الى المملكة، خفض التمثيل بين الدولتين الى مستوى قائم بالأعمال، وليس إيصاد أبواب السفارتين كلياً. لا إشارات إيجابية الى احتمال العودة عن جزء من التدابير العقابية ضد لبنان على الأقل.
ما حدث بعد البيان الفرنسي ــــ السعودي، ربما يكون أوقف فرض الإجراءات السلبية. إلا أنه دلّ على منحى أكثر تشدداً.
بعد قمّة جدة، خرجت جولة وليّ العهد السعودي على دول مجلس التعاون الخليجي، واحدة تلو أخرى، بنسخة مطابقة لبيان جدّة في توجيه الاهتمام الى أصل المشكلة في الأزمة اللبنانية ــــ السعودية، ثم أعاد قبل يومين وزير الخارجية السعودي فيصل بن فرحان تأكيدها: حزب الله ودوره، في ما عدّته دول مجلس التعاون «أنشطة إرهابية وإجرامية في المنطقة تهدّد أمنها واستقرارها»، فضلاً عن سلاحه في لبنان. بذلك أضحى هذا الموقف ــــ مع أن دول المجلس كانت قد اتخذته منفردة في أوقات متفاوتة ــــ السياسة الخليجية العامة حيال لبنان. وتالياً شرطاً مباشراً وحتمياً لإعادة تطبيع علاقاتها بهذا البلد. وهو ما أفصحت عنه البيانات الثنائية الصادرة عن قمم عُمان وأبو ظبي وقطر والبحرين، بنبرات مختلفة، ما بين 6 كانون الأول و9 منه. أقرب ما يكون الى «تعريب» جديد للأزمة اللبنانية. سرعان ما انضمّت مصر والجامعة العربية، إبان الزيارة الأخيرة لميقاتي، الى هذا التوجّه بالدعوة الى تصويب العلاقات اللبنانية ــــ الخليجية.
«تعريب» الأزمة اللبنانية: تسوية جديدة لا يُستثنى منها سلاح حزب الله
الإضافة الفعلية المهمة الى الموقف الخليجي العام، هي ما نقل عن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قوله لميقاتي إن الوضع اللبناني بات يحتاج الى «وفاق سياسي جديد». ليست هذه الإضافة إلا استكمالاً لكل ما تضمّنه بيان جدّة، ونَسَخَته عنه البيانات الأربعة التالية، بتوجيه الانتباه الى تسوية سياسية جديدة للبنان لا يُستثنى منها سلاح حزب الله. يشير ذلك الى تجاوز التسويتين، الكبرى والصغرى، اللتين خبرهما لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة، وباتتا الآن في حكم الانهيار بعدما انهارت ــــ أو تكاد ــــ الدولة التي انبثقت منهما، وأوجدت الطبقة السياسية الحاكمة التي لمّا تزل نفسها مذذاك، لكن بكمٍّ لا نظير له من الموبقات والارتكابات: اتفاق الطائف ما بين عامَي 1990 و2008، واتفاق الدوحة ما بين عامَي 2008 و2021.
في كليهما، سهرت التسوية، الكبرى ثم الصغرى، على استثناء حزب الله من النزاعات الداخلية، فظهر أنه في منأى عن هذه، كي تقتصر تلك على الصراع على السلطة والحكم وتقاسم المغانم.
في ظلّ التطبيق السوري لاتفاق الطائف، سلّمت التسوية الدستورية والسياسية حينذاك بإخراج سلاح المقاومة من بنودها. رضي الأفرقاء جميعاً بتجريد الميليشيات كلها من سلاحها، وتركه لدى حزب الله ما دام لا يستدير الى الداخل اللبناني، وينصرف الى مقاومة إسرائيل. في صلب الدعم الذي حظي به الثنائي الشيعي لاستثناء سلاح المقاومة، أن زعامتَي السنّة والدروز كانتا في أساس القبول وقتذاك بالمعادلة هذه، وهما في الكنف السوري، كأفضل ثنائي متميّز ناجح في التلقف وقطف ثمار المقايضة. وكان رمزاهما الفعليان الرئيس رفيق الحريري ووليد جنبلاط. الى جانبهما جزء متواضع قليل الأهمية من المسيحيين، ما أتاح لدمشق فرض هذا الخيار.
منذ اتفاق الدوحة الذي تلا أحداث 7 أيار 2008، وشهدت نزاعات مسلحة في عقر ما يُعدّ عواصم السنّة والدروز، بيروت والجبل، خرج هؤلاء من معادلة التسعينيات كي يضعوا على طاولة البحث مصير سلاح حزب الله. في المقلب نفسه، كان نصف المسيحيين في مواجهة النصف الآخر المتحالف مع الحزب. بيد أن أهم أمثولة انبثقت من اتفاق الدوحة، أن السنّة والدروز والنصف الثاني من المسيحيين سلّموا بما لا يسعهم مقاومته، وبينهم مَن لاذ بحزب الله كي يبقى في السلطة، أو على رأسها. ذلك ما برّر في مرحلة ما بعد اتفاق الدوحة مناقشة مصير سلاح المقاومة. آل اتفاق الدوحة الى ما كان قد آل إليه اتفاق الطائف: حصر مهمته بفضّ نزاعات الأفرقاء في صراعهم على السلطة والحكم وتقاسم الحصص وكل ما في الدولة.
في كلتا حقبتَي اتفاقَي الطائف والدوحة، كانت مصر ودول الخليج ظهيرهما، سواء بتعويلهما على التفويض المعطى الى سوريا لإدارة لبنان ودولته، أو في ما بعد بالتعويل التالي القائم على توازن قوى ناجم عن الاشتعال المذهبي السنّي ــــ الشيعي، وكان لبنان في أوج استعاره حينذاك.
بات الآن «التعريب» الجديد المعلن في مقاربة مشكلة لبنان، يجد في الإصلاحات المتوقعة ــــ وقد لا تحصل ــــ اهتماماً هامشياً قليل الفاعلية والجدوى. ليس مصدر إعادة بناء الدولة الجديدة بعد سقوط دولة اتفاق الطائف بما فيها ومَن عليها، بل تسوية سياسية جديدة لا استثناءات فيها.