تجتاح اللبنانيين بعامّة وبخاصّة المسيحيين هواجس تنتمي بمعظمها إلى منطقة رماديّة مغلّفة بضباب كثيف يفرض ثقله على المناخ السياسيّ والانتخابيّ في لبنان حتّى يقول سعد الحريري قولته سلبًا أو إيجابًا. ويروج كثيرون ويتساءلون ماذا لو أعلن دعمه لوصول العماد عون، فكيف سيتجه المشهد السياسيّ، هل سيشهد لبنان فسحة من الاستقرار الاقتصاديّ-الاجتماعيّ، من ضمن مناخ سياسيّ هادئ تغيب عنه الغرائز المنتفخة لتستبدل بالعقول المنفتحة حيث منها تنضح الرؤى صافية ومتحرّكة. كما أنّ كثيرين ينطلقون من مقاربة مختلفة لتلك المقاربة يتساءلون، ماذا لو لم ينتخب ميشال عون، هل نفترض بأننا سنتجه إلى مناخ فوضويّ ضاغط ومتفلّت ومفتوح على عوامل كثيرة حبلى بالبراكين المهيأة للانفجار إلى أن يعمّ من جديد الانفراج ليس عن طريق الانتخاب فقط بل عن طريق تسوية تاريخيّة أو مؤتمر تاسيسي تجري على أساسه بل على ضوء نتائجه الانتخابات الرئاسيّة.
المأساة الحقيقيّة أنّ اللبنانيين يعيشون في قلب لجج مختبطة وأمواج متلاطمة في ظلّ شحّ المعلومات الحقيقيّة عند المسؤولين أنفسهم. قد يكون بعضهم اعتمد القاعدة القرآنية القائلة: «واستعينوا على قضاء حاجاتكم بالكتمان» يساند تلك القاعدة كلام لداغ هامرشولد الذي كان رئيسا للأمم المتحدة، «لكي تساعد الحقيقة على الانتصار والتحقّق عليك أن تعلن نصفها». ما يبدو في الآفاق أنّ مسألة الانتخابات الرئاسيّة في لبنان تنتظم تباعًا وفقًا للدلالات المتأتية من واقع الصراع في سوريا ومنها إلى العراق فاليمن. لن يكون في المدى المنظور هذا الملفّ منفصلاً عن الدائرة الواسعة للصراع المتجه إلى حسم تتأسس عليه التسويات الكبرى بين اللاعبين والمتصارعين في المنطقة الممدودة من سوريا إلى اليمن. ويجب في هذا المجال الاعتراف وبتواضع جليل بأنّ الانتخابات الرئاسيّة قد تكون عمادًا لتسوية داخلية تؤول إلى تسوية أوسع، إذا تبيّن بأنّ المملكة العربيّة السعوديّة أعطت رأيها الإيجابيّ للرئيس سعد الحريري مثلما حاول بعضهم البوح، وقد تؤول أذا توغّل بعضنا بالسلبيات المتكدّسة والمتكلّسة والمحيطة بالانتخابات إلى دخول لبنان في أتون ملتهب جدًّا على كلّ المستويات المذهبيّة والطائفيّة والسياسيّة، مع امتداد واضح للعواصف السوريّة واليمنيّة إلى الداخل اللبنانيّ.
يسوغ لكثيرين من الأوساط والمراقبين التأمل بهذا العنوان من ضمن المعاني، وليس من ضمن ما يتمنّاه كثيرون سواء كانت التمنيات طيبة أو مرّة. فقد أظهرت التظاهرة على طريق القصر الجمهوريّ قوّة العماد ميشال عون في الوسط المسيحيّ والوطنيّ أيضًا، بل ازدادت أكثر بعد الغيوم الداكنة التي حلّت على التيار من الداخل، فظهر الحشد فائقًا لما حاول بعضهم من المعارضين تسويقه وإظهاره، فبقي الثنائيّ ميشال عون وجبران باسيل المالكين لكلّ قدرة على التحفيز والتحشيد بمقوّمات التحفيز الحقيقيّ. الرسالة لمن عارض هذا النهج كانت بليغة الدلالات، وقادت المراقبين إلى الاستنتاج بأنّ من عارض وخرج من التيار إنما كان ضحية أوهام كان عليه أن يتفاداها في ظلّ الصراع الدائر حول انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا لجمهوريّة لبنان. يكفي التركيز في المشهد ليتبيّن فيما بعد أنّه يؤكّد شرعيّة جبران باسيل في رئاسة التيار وهو الثائر بالعقل والساعي في التيار إلى بناء أسس ديموقراطية حديثة. وبديمومة فكر العماد ميشال عون في إطلالته على امداء كثيرة جعلته الناطق باسم المسيحيين اللبنانيين والمشارقة.
ليس الهم التوقّف عند الواقع الداخليّ للتيار الوطنيّ الحرّ، بل الهمّ الإيضاح بأن رهان الآخرين من سفراء دول وسياسيين على انقسام التيار الوطنيّ بصورة عموديّة يؤدّي إلى وهن وعطب سياسيين وندوب خطرة في هذا الجسم قد سقط تلقائيًّا. فمن الرهانات المحصاة عند عدد من الأوساط، والمحماة بصورة سلبيّة، بأنّ العماد ميشال عون سيضعف ولن يكون بمقدوره البلوغ نحو المشتهى المرتجى. كلّ هؤلاء بحسب المصادر تعمّدوا تغذية الإعلام بتماه تام مع الفريق الآخر، للقول أن عون غير قادر على قيادة اللحظة الجديدة، فهووبحسب هؤلاء غير قادر على إعادة اللحمة إلى التيار فكيف يقدر أن يحكم وطنًا؟ وتماهى ذلك مع حرب شعواء تشنّ عليه من الخصوم السياسيون له، لقطع الطريق على وصوله إلى القصر، وتقول بعض المصادر بأن هذا الأمر ليس استنتاجًا أو تحليلاً بل واقع حاول أربابه خرق الحقيقة بمظاهر وشعائر لم تؤدّ إلى نتائج ملموسة تكسب أصحابها العطف تحت ستار «مظلوميّة» يتلطون خلفها، بل أدّت في حقيقة الأمر إلى نتائج عكسيّة جوفت الرؤية عندهم من المحتوى إلى الهيكل المشيّد على مجموعة رمال متحركة، وهي بالفعل قد تجوّفت منذ اللحظة الأولى للاعتراض.
ونعود إلى المعاني الراقدة في جوف الاتجاه نحو تحقيق الانتخاب. يتوقّف مصدر سياسيّ عند الأحداث في سوريا وبخاصّة في حلب وعلى الحدود ما بين سوريا وتركيا أو سوريا والعراق، ليذكر بأن الأحداث في سوريا بنتائجها تبقى الناخب الكبير على مستوى الانتخابات الرئاسية في لبنان. فهي قادرة على التأثير بالنتائج الحالية أو باستباق لتسوية ممكن أن تتحقّق مباشرة من الميدان. لقد طرح المصدر المذكور سؤالاً: ماذا يعني أن تمنح السعوديّة «كلمة السرّ» بحسب تعبير وليد جنبلاط الأخير، وهي التي كانت ممانعة من قبل لوصول العماد عون إلى الرئاسة يشهد ديفيد هيل على ذلك؟ وأردف قائلاً: «لقد أحرقت السعودية معظم أوراقها في المنطقة المشرقيّة لأسباب عديدة أهمها خلاف الأجنحة فيها وبخاصة جناح محمد بن سلمان وجناح بن نايف، وترسيخ معظم القوى التكفيرية في سوريا لمقاتلة النظام بهدف إسقاطه وها هو لا يزال راسخًا وثابتًا وفي العراق الذي يستعيد الموصل في قتال شرس، حاولت الدخول لإحداث صراع مذهبيّ كما في سوريا بتجييش وتهييج مذهبيّ لتعود القهقرى وتحترق أوراقها، وفي اليمن ما كانت المجزرة الأخيرة سوى محطة من محطات الإرباك والخوف، لقد بقي لها لبنان ساحة من خلال الطائف، وهي ما فتئت تقاتل لبقائه موئلاً لانبثاث الإسلام السياسيّ من لبنان بواسطة شخصيات يتوشحون به، أمام كل ذلك ما معنى أن تعطي الضوء الأخضر لسعد الحريري لتسمية العماد ميشال عون، بحال تمّ ذلك، على الرغم من التفاؤل المفرط عند كثيرين فيما العقلاء لا يزالون حذرين في المقاربة؟ ويجيب نحن أمام احتمالات عديدة بعضها معلن وبعضها غير معلن. ما يجب قراءته بأنّ السعودية لا تزال بحاجة إلى لبنان كقاعدة لها، وكمدى لحراكها على المتوسط. وفي هذا الأمر يمعن بعض المحللين بتوصيف ترشيح سعد الحريري بحال تمّ للعماد عون بأنّه يمثل رضى سعوديًّا، فيما فتح امين عام حزب الله السيد حسن نصرالله ثغرة في الجدار السميك يمثّل رضى إيرانيًّا، ليبلغوا إلى الاستنتاج بأنّ السعوديين والإيرانيين المتحاربين في سوريا والعراق والبحرين واليمن قد تقاطعت مصالحهما في لبنان حول شخص عون، ويعتقد المصدر بأنّ تقاطع المصالح منطلق تسووي صغير قد يتوسّع شيئًا فشيئًا ضمن قدرة العماد عون والرئيس الحريري على التأسيس للحظة حكومية وسياسيّة جديدة مليئة بالإثمار.
وعلى الرغم من ذلك ليس الانتطار مصبوبًا نحو قول الحريري كلمته النهائيّة، بل إلى تعليق الرئيس نبيه يرّي وما سيقدم عليه. تشير المعطيات إلى الآن بأنّ الرئيس برّي لا يزال عائقًا كبيرًا بوجه وصول عون، ويعتقد آخرون في هذا المجال بأنّ كلمة السرّ أميركية كانت أو سعوديّة لن تكون بحوزة الحريري، بل بحوزة برّي على وجه التحديد. المشكلة ليست مع سعد الحريري بل مع نبيه برّي المالك لناصية القرار، وفيه ومعه تتقاطع مصالح دول كثيرة قد تجعله مرغمًا على التسمية أو مرحبًا في عدم التسمية أو في الكلام على خيارات اخرى بديلة، وقد يكون عنده أنّ الوزير السابق المثقف والراقي وصاحب الكلمة الراقية جان عبيد هو البديل الموضوعيّ، علمًا ان جان عبيد صديق للجميع وبشكل خاص للعماد ميشال عون والذي تربطه به صداقة عمر.
وفي الانتظار يبقى أن نتساءل مع المفكر السياسيّ الدكتور وسيم بزّي: «هل سعد الحريري يناور او يبادر؟» الجواب: الوضع لا يحتمل المناورة، فليبادر إذًا قبل فوات الأوان، فالقبول الرضائيّ أفضل بكثير من الإذعان، حين يرى معظم الأفرقاء أنفسهم أمام مؤتمر تأسيسيّ يفرض على الجميع نظامًا سياسيًّا جديدًا من ضمن التقسيمات والتسويات في مدى الإقليم الملتهب.