كل ارتقاء بالعلاقات الروسية – السعودية، منذ نهاية الحرب الباردة، اقترن بمتغير استراتيجي كبير في الشرق الأوسط، التقت مصالح البلدين عند ضرورة الاستجابة المشتركة له.
تاريخ العلاقات بينهما هو تاريخ هذه المفاصل الحساسة في الشرق الأوسط، بشكل لا يمكن أن يفوت عين المراقب. عودة العلاقات الدبلوماسية الروسية – السعودية في سبتمبر (أيلول) 1990 جاءت بعد شهر من زلزال اجتياح صدام حسين للكويت، وفي أعقاب انطلاق عملية درع الصحراء، التي تطورت لاحقاً إلى عملية عاصفة الصحراء، وانتهت بإخراج صدام من الكويت. نجحت جهود البلدين، لفترة وجيزة، مشفوعة بالسياسات الجديدة لميخائيل غورباتشوف، في تجاوز التاريخ بينهما، ولا سيما ما كانت عليه الحال أيام الاتحاد السوفياتي وأيام الجيش الأحمر في أفغانستان. وأيضاً في التسعينات بسبب الحرب التي كانت تخوضها روسيا ضد الانفصاليين الشيشان، إضافة إلى الموقف السوفياتي الذي كان يميل إلى الصرب وما مارسوه ضد مسلمي البوسنة.
في هذه المناخات ولدت الظاهرة البوتينية باعتبارها ظاهرة قومية روسية، بخصائص عرقية سلافية ودينية مسيحية أرثوذوكسية، وباعتبار فلاديمير بوتين، نجم المواجهة مع «الجهاديين» من هذا الموقع تحديداً.
مجدداً، سيكون صدام حسين سبباً للتقريب بين البلدين؛ إذ ستلتقي مصالح موسكو والرياض عند معارضة العاصمتين الاجتياح الأميركي للعراق للإطاحة بنظام بغداد؛ وهو ما أدى إلى الزيارة التاريخية لولي العهد السعودي – آنذاك – الأمير عبد الله بن عبد العزيز إلى موسكو في نوفمبر (تشرين الثاني) 2003، بعد الاحتلال الأميركي. إلا أن الحذر ظل الحاكم الرئيسي للعلاقات السعودية – الروسية، بحيث إن التبادل التجاري بين البلدين لم يكن قد تجاوز المليار دولار حين زار بوتين الرياض في فبراير (شباط) 2007.
أحيت زيارة بوتين الأمل الدائم في النهوض بهذه العلاقة، وشهد العامان 2007 و2008 زيارات متبادلة ومحاولات من الجانبين، للتفاهم على عقود تجارية وإعمارية، وعقود تسلح واجتراح تفاهمات نفطية من دون التوصل إلى نتائج كبيرة.
لسوء حظ البلدين، أدخل وصول باراك أوباما إلى سدة الرئاسة الأميركية، متغيراً جديداً على العلاقات الروسية – السعودية، ولا سيما مع القرار الاستراتيجي الأميركي بالحوار مع إيران حول ملفها النووي! بالنسبة لموسكو كان كل تقارب روسي – سعودي يهدد بدفع الإيرانيين أكثر باتجاه واشنطن. وبالنسبة للسعودية، فإن حفاظ موسكو على مستوى علاقاتها مع إيران، يعني تمكيناً لإيران من خلال تزويدها بالصواريخ بعيدة المدى والغواصات التي تهدد أمن المنافذ المائية في الخليج، دعك عن الدور الروسي في مساعدة نظام الملالي على تطوير برنامجهم النووي، والأهم تحسين المكانة الدولية لإيران.
كما في كل المفاصل السابقة، تتزامن الزيارة التاريخية لأول ملك سعودي إلى موسكو، مع مفصل جديد في الشرق الأوسط، عنوانه نجاح التدخل الروسي العسكري في الأزمة السورية بعد سنتين بالتمام والكمال، في تحقيق أهداف استراتيجية لبوتين، أبرزها حماية نظام بشار الأسد، وفرض شبكة من اتفاقات التهدئة وخفض التوتر غيرت مشهد الميدان السوري.
زيارة الملك سلمان، من هذه الزاوية السورية، هي تتويج لمسار افتتحه، ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بتوجيه من الملك، وهو زار روسيا قبل التدخل الروسي في سوريا وبعده، خلال شهري يونيو (حزيران) وأكتوبر (تشرين الأول) 2015، كما جاءت زيارته الأولى بعد صدور القرار الأممي 2216 الذي يشرع العملية التي تقودها السعودية في اليمن، من خلال امتناع موسكو عن التصويت وعدم استخدام الفيتو ضد القرار. ثم زار الأمير محمد بن سلمان موسكو في مايو (أيار) 2017 والتقى بوتين للبحث في مستقبل الأزمة السورية، بعد رعاية موسكو في آستانة اتفاق خفض التوتر يوم 4 مايو 2017 القاضي بإقامة أربع مناطق آمنة في سوريا.
تحقيق بوتين أهدافه في سوريا لا يقلق السعوديين؛ فالدور الروسي لا يثير الحساسيات المذهبية التي يثيرها الدور الإيراني لو كان هو من تسيد المشهد. وهما متفاهمان على الملف الكردي في سوريا والعراق. أما انتظام معادلة أميركية روسية تحكم سوريا اليوم يعطي السعوديين هامشاً كبيراً للمناورة.
قبل فترة سمعت من مسؤول سعودي رفيع، قراءة مفادها أن السعودية تتمتع بعلاقات إيجابية مع كل من واشنطن وموسكو، وهما اللاعبان الأبرز في سوريا، في حين أن علاقة إيران سيئة بالأميركيين وتنافسية مع الروس، وهو واقع أكثر راحة لإدارة المصالح السعودية من نظيرتها الإيرانية. وتعرف موسكو أن دخولها إلى سوريا ما كان ممكناً من دون التفاهم مع إيران، وأن بقاءها غير ممكن من دون التفاهم مع السعوديين.
أضف إلى كل ذلك، أن إدارة دونالد ترمب تريح موسكو من هاجس التقارب الإيراني الأميركي، وحاجة السعودية وروسيا إلى الاستمرار في التفاهمات النفطية، تعمق مصالحهما المشتركة. والأهم، بما أن كل السياسيات هي سياسات محلية في نهاية الأمر، فإن الاستثمار السعودي في روسيا، سيعطي بوتين قوة دفع اقتصادية كبيرة يقدمها كإنجاز للناخب الروسي في الانتخابات الرئاسية المقبلة عام 2018.
الصفحة الجديدة فُتحت، وهندسة شرق أوسط جديد انطلقت.