القرارات المَلكية الإصلاحية التي أصدرها الملك سلمان بن عبد العزيز، بعد أيام من تسلمه مقاليد القيادة، ودشّن بها العهد الجديد، استقطبت اهتماماً واسعاً في عواصم القرار العربية والإسلامية والدولية، نظراً لدور المملكة المؤثر في المحاور الإقليمية، فضلاً عن مكانتها المميزة في النظام العالمي.
ورغم أن القيادة السعودية نجحت في تحقيق «نقلة نوعية»، على مستوى تفعيل الأداء الوزاري، بإضافة العناصر الشابة إلى مجلس الوزراء، وتكليفهم بوزارات على جانب كبير من الأهمية، إلى جانب الخطوات الإصلاحية الحاسمة في المؤسسات الإدارية والرقابية، فإن الاهتمام الخارجي بمثل هذه القرارات الداخلية، مردّه إلى ترقب اتجاهات العهد السعودي الجديد في التعاطي مع الملفات الساخنة في المنطقة، وكيفية التعامل مع القضايا والأزمات التي تشغل المحافل الدولية، بدءاً من أزمة أوكرانيا المستفحلة، إلى تداعيات انخفاض أسعار النفط ، إلى جانب طبعاً الحرب الدولية ضد الإرهاب، والتي تتخذ من بعض الدول العربية مسرحاً لعملياتها.
وأصبح معروفاً أن القرارات المَلكية غير المسبوقة، أثارت موجة عارمة من الإعجاب في الدوائر السياسية والمنابر الإعلامية الدولية، لأنها أعطت الأولوية لترتيب البيت الداخلي للمملكة، وإشاعة أجواءٍ من التضامن والوئام بين القيادة والقاعدة، وهي ضرورة لا غنى عنها، في صياغة السياسات الخارجية للسعودية، والتي ستمكنها من مواجهة التحدّيات، المتفجرة والمعقدة في الإقليم، خاصة بعد الانقلاب الحوثي في اليمن، وانتشار الظاهرة الداعشية وأخواتها، في سوريا والعراق.
* * *
ولعل أبرز مؤشرات المرحلة الجديدة تجلّت في إنشاء مجلس للشؤون السياسية والأمنية برئاسة ولي ولي العهد، وزير الداخلية الأمير محمّد بن نايف، ومجلس للشؤون الاقتصادية والتنموية برئاسة رئيس الديوان الملكي وزير الدفاع الأمير محمّد بن سلمان، مما يعني أن ثمة توجهاً حقيقياً لإشراك النخب الشابة، من أصحاب الاختصاص والكفاءة، في صياغة الاستراتيجيات والسياسات الأساسية، التي ستسير على نهجها المملكة في السنوات المقبلة، في إطار تعزيز خطى التطوير والتحديث، التي أشارت إليها مقدمات القرارات الملكية، فضلاً عن تفعيل خطط التنمية البشرية والحضارية، عبر طيّ صفحة الازدواجية، وتضارب الصلاحيات، التي كانت تحكم أحياناً أعمال المؤسسات والإدارات التي تمّ إلغاؤها، مع إنشاء المجلسين الجديدين برئاسة الأميرين الشابين: الأول الذي أثبت كفاءة ومقدرة عاليتين في إدارة الملف الأمني طوال عقد من الزمن، والثاني الذي يُعتبر الأقدر على ترجمة رؤية خادم الحرمين الشريفين الاقتصادية والتنموية.
* * *
غير أن إعطاء الأولوية للوضع الداخلي، لا يعني، ولا يجب أن يوحي لأحد، أن الملك سلمان بن عبد العزيز، سينشغل عن الوضع العربي، الذي يُعاني إرباكاً في مواقع، وتردياً في مواقع أخرى، وتفجراً في مواقع ثالثة.
والعاهل السعودي، صاحب خبرة ودراية، في الملفات العربية، والقضايا الدولية، وكانت له مواقف مشهودة في دعم القضية الفلسطينية، وفي معارضة التدخلات الخارجية في الشؤون العربية، وهو صاحب الدعوة الدائمة لتغليب الحكمة والعقل في حل النزاعات الداخلية، التي تمزّق وحدة بعض الدول العربية.
ولعل المملكة العربية السعودية في طليعة الدول العربية المعنية بالتمدّد الإيراني الحالي، والذي استطاع أن يُحقق اختراقات ظاهرة وخطيرة، في أكثر من بلد عربي.
ورغم أن العلاقات السعودية – الإيرانية المقبلة، ستحدّد وضعية الإقليم برمته، المتأرجحة بين الاضطرابات الراهنة، والتسويات الانفصالية القاسية، فإن مسألة التصدّي للاختراق الإيراني على أكثر من جبهة عربية، ليست مسؤولية السعودية وحدها، بقدر ما هي قضية عربية تمس، بل تهدد النظام القومي العربي من أساسه.
من هنا أهمية الخطوات التي سيتبعها الملك سلمان بن عبد العزيز، لاستعادة المبادرة في الأحداث العربية المتلاحقة، والمضي قدماً في ترسيخ قواعد المصالحة الخليجية – الخليجية، حتى تكون بمثابة حجر الزاوية الذي يُبنى عليه التضامن العربي المنشود، في صيغة أكثر فعالية، وأكثر حسماً، من التجارب السابقة.
لقد علمتنا التجارب المريرة في المراحل السابقة، أن اختراق الجسد العربي يكون أكثر سهولة عند حصول أدنى ثغرة في العلاقات بين الرياض والقاهرة، وأن العكس صحيح، حيث يبقى تلاقي العاصمتين العربيتين الأكبر هو الأساس الأوّل والأمتن لصرح التضامن العربي.
والملك سلمان، كان في أصعب المراحل وأخطرها وما زال، من دعاة التضامن العربي، ومن مشجّعي التلاقي والتعاون مع الشقيقة الكبيرة مصر، وهو في مقدمة المساهمين في ترسيخ علاقات الدعم والتعاون مع مصر عبد الفتاح السيسي، والتي كان نسج خيوطها الأولى الراحل الكبير الملك عبد الله بن عبد العزيز، رحمه الله.