IMLebanon

المملكة العربية السعودية ومسألة الخلافة الإسلامية

نظام الخلافة في الإسلام يعني نظام الحكم المستمد من تعاليم الشريعة الإسلامية، ويعني استخلاف قائد مسلم على رعاية وقيادة الدولة ليحكمها بتعاليم الشريعة الإسلامية. وسُمّيت خلافة لأنّ قائدها هو مَن يخلف الرسول محمد عليه الصلاة والسلام، أو يخلف مَن جاء بعده من الخلفاء لقيادة المسلمين وحكم الدولة الإسلامية بتعاليم الشريعة الإسلامية المستمدّة من كتاب الله وسُنّة رسوله عليه الصلاة والسلام. والخلافة عند الشيعة الإمامية والإسماعيلية تعني الإمامة التي هي امتداد للنبوّة، وأقوال الإمام وأفعاله حُجّة يجب الأخذ بها لأنّ الإمام يصل الى مرحلة العصمة.

وقد كان المسلمون تحت نظام حكمٍ عُرفَ (بالخلافة الراشدة) لمدة ثلاثين عاماً بعد النبيّ محمد صلى الله عليه وسلّم، ولم يكن هناك إلا دولة إسلامية واحدة، ثمَّ توسّعت الدولة الإسلامية وتعدّدت الدول الإسلامية بعد سقوط الخلافة الأمويّة عام (232هـ – 750م)، وهي ثاني خلافة في تاريخ الإسلام بعد الخلافة الراشدة، وأوجب علماء الإسلام على مختلف مذاهبهم احترام ما لكلّ تلك الدول الإسلامية القطرية من حقوق وواجبات، وما عليها من مسؤوليات في تحكيم الشريعة وأداء الأمانات الى أهلها، وإقامة العدل في رعاياها، وحُسن الجوار للدول المجاورة لها، وصيانة حدودها المعترف بها دولياً، وعدم الاعتداء على غيرها أو التمدّد نحوها، أو اقتطاع أجزاء منها. يقول الإمام الشوكاني رحمه الله (1759م-1834م): (وأمّا بعد انتشار الإسلام واتساع رقعته وتباعد أطرافه، فمعلوم أنّه قد صار في كلّ قطرٍ من أقطار الولاية الى إمام أو سلطان، وفي القطر الآخر كذلك، ولا ينعقد لبعضهم أمرٌ ولا نهيٌ في قطر الآخر وأقطاره التي رجعت الى ولايته، ويضيف الإمام الشوكاني (فلا بأس أن يتعدّد الأئمة والسلاطين، ويجب الطاعة لكلّ واحد منهم بعد البيعة له على أهل القطر الذي تُنفّذ فيه أوامره ونواهيه، وكذلك صاحب القطر الآخر وهذا معلوم لكل من له إطلاع على أحوال البلاد والعباد، فاعرف هذا، فإنّه المناسب للقواعد الشرعية، والمُطابق لما تدلّ عليه الأدلّة، ودع عنك ما يُقال في مخالفته، فإن الفرق بين ما كانت عليه الولاية الإسلامية في أول الإسلام وما هي عليه الآن أوضح من شمس النهار، ومن أنكر هذا فهو مُباهت لا يستحقّ أن يُخاطَب بالحجّة لأنّه لا يعقلها).

أما الخلافة بمعناها لدى الجماعات المتطرّفة والتنظيمات الإرهابية التي تنظر الى موضوع الخلافة باعتباره وسيلة لحكم جميع دول العالم في زعمهم، ولا يعترفون بالحدود الدولية، ويبطلون شرعية جميع الدول الإسلامية القائمة في العالم الإسلامي، ويهدفون الى زعزعة الأمن والاستقرار في الدول، وينتهجون لذلك أساليب القتل وتدمير المصالح العامة والخاصة والفساد، هذه هي نظرة الجماعات المتطرّفة والتنظيمات الإرهابية لمسألة الخلافة والدولة، وهو فكر ونهج تصدير الثورة لدى نظام ولاية الفقيه في إيران ومَن سار على نهجها، فكل هذه الأفكار متطرّفة، خارجة عن قواعد الشريعة الإسلامية، والعقل والواقعية، والمصلحة البشرية.

والمملكة العربية السعودية وعلماؤها ينظرون الى مسألة الخلافة نظرة مختلفة عمّا تراه الجماعات المتطرّفة والتنظيمات المتشددة ونظام الحكم في إيران، فالمملكة ترى الدولة من منظور شرعي قانوني واقعي، وقد جاء النص على قواعد الحكم في المملكة من خلال أنظمة الدولة الرئيسة، ومنها النظام الأساسي للحكم الذي نصّ في المادة الأولى على أن (المملكة العربية السعودية دولة إسلامية، ذات سيادة تامة، دينها الإسلام، ودستورها كتاب الله تعالى وسُنّة رسوله صلى الله عليه وسلّم، ولغتها هي اللغة العربية، وعاصمتها مدينة الرياض). وفي المادة الثامنة من نظام الحكم، يقوم الحكم في المملكة العربية السعودية على أساس العدل والشورى والمساواة، وفق الشريعة الإسلامية). وفي المادة الحادية والثمانين (لا يخلّ تطبيق هذا النظام بما ارتبطت به المملكة العربية السعودية مع الدول والهيئات والمنظمات الدولية من معاهدات واتفاقيات). واستندت رؤية المملكة وعلمائها على نصوص القرآن الكريم والسُّنّة النبوية في وجوب طاعة أُولي الأمر، وتحقيق مقاصد الشريعة من حفظ الدين والنفس والعقل والعُرض والمال، فالإمامة مقصودها، كما نصّ علماء السياسة الشرعية هو (حراسة الدين وسياسة الدنيا، وعقدها لمن يقوم بها في الأمة واجبٌ بالإجماع).

وبهذا التأصيل تقوم حياة الناس ويتحقّق أمنهم واستقرارهم، وتُحفظ معيشتهم وكرامتهم وحقوقهم وتُرعى مصالحهم، أمّا إلزام جميع المسلمين على مختلف دولهم وبلدانهم بأن يكونوا تحت سلطة واحدة فهذا أمرٌ غير ممكن، نظراً لاتّساع رقعة العالم الإسلامي وكثرة عدد المسلمين وتفاوت ظروف الدول الإسلامية وتنوّع شعوبها، ولذا لم توجد خلافة إسلامية جامعة منذ نهاية الدولة الأموية كما نصّ على ذلك عدد من العلماء والمؤرخين. وقد لاحظ علماء الإسلام وعقلاء الأمة هذا الأمر، فلم يتقدّم أحدٌ منهم على الإعلان عن خليفة لكلّ المسلمين يجب عليهم السمع له وطاعته، فمثلاً الدولة السعودية الأولى التي قامت عام 1157هـ – 1744م وامتدَّ نفوذها الى معظم أنحاء الجزيرة العربية لم تُعلن الخلافة، ولم تُوجب على جميع المسلمين سمعها وطاعتها رغم أنّها استمرت قرابة ثمانين عاماً، وكذلك الحال في الدولة السعودية الثانية حين استقر الأمر لمؤسس المملكة العربية السعودية الملك عبد العزيز آل سعود رحمه الله لم يُعلن نفسه خليفةً لجميع المسلمين في كل أنحاء العالم بل حصَرَ سلطانه في الحدود المتعارف عليها حالياً للمملكة العربية السعودية، وكذلك أبناؤه من بعده ساروا على نهجه ولم يتمدّدوا في العدوان والتوسع على حساب جيرانهم، فحفظوا لهم حدودهم وحُسن جوارهم، بل ساهموا مساهمة فعّالة في الحفاظ على كيانات الدول المجاورة لهم التي تعرّضت للعدوان والإحتلال كما حصل مع دولة الكويت والبحرين واليمن وغيرها.

وتعاملت الدولة السعودية مع غير المسلمين بالعدل، والتسامح والتعاون بما يحقق المصالح المشتركة للجميع، بغضّ النظر عن جنسياتهم وأديانهم، وطلبت منهم الالتزام بقوانين البلد وأنظمته، وحفظت حقوق الجميع من خلال الأنظمة والقوانين المرعية الإجراء، والعدل في المنظار الإسلامي الذي تنطلق منه المملكة العربية السعودية قيمة مطلقة ذات معيار واحد ثابت مهما تغيّرت الظروف والأحوال، والعدل هو الحد الأدنى في علاقة المسلم بغيره، وبعد ذلك يُطالب المسلم بدرجات أسمى في العلاقة مع الآخرين، فالعدل إن كان يعني المعاملة بالمثل فالمسلم مأمور بما هو فوق المعاملة بالمثل من العفو والبرّ والإحسان، كما نصّ على ذلك القرآن الكريم بقوله تعالى { لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} (سورة الممتحنة، آية 8).

وتحرّم نصوص الإسلام أيّ اعتداء على غير المسلمين بانتهاك حقوقهم أو العدوان عليهم بالتفجيرات ونحوها، أو الإضرار بهم في حياتهم أو أموالهم، كما تؤكد النصوص على عصبة المعاهدين والمُستأمنين ومَن في حكمهم، وأنّ من ينتهك عهودهم فهو خائن يستحقّ العقوبة، وقد جاء في حديث أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم قال: (ذمّة المسلمين واحدة فمن أخفَرَ مسلماً فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، لا يقبل منه صرفٌ ولا عدل). وجاء عن عبدالله بن عَمرو رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلّم قال: (مَنْ قتَلَ معاهداً لم يرح رائحة الجنّة، وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً). وتتابعت فتاوى علماء المملكة بحفظ حقوق غير المسلمين وعدم انتهاكها، وتحريم العدوان عليهم ومشروعيّة الإحسان إليهم، والترفّق بهم، وقد جاء في بيان هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بعد بعض الأحداث التي استهدفَت بعض غير المسلمين ما نصّه (فلا يجوز التعرّض لمُستأمَن بأذى فضلاً عن قتله في مثل هذه الجريمة الكبيرة النكراء، وهذا وعيد شديد لمن قتل مُعاهداً، وإنّه كبيرةٌ من الكبائر المتوعّد عليها بعدم دخول القاتل الجنّة).

وبهذا فإنّ مسألة الخلافة التي بدأت تتناقلها بعض مراكز الأبحاث والدراسات والأوساط تتناقض مشروعيتها مع ما تُعلنه وتدعو إليه بعض التنظيمات المتشددة بين الحين والآخر. وقد أوضحت المملكة العربية السعودية وعلماؤها، وجمهورية مِصر العربية ومشيخة الأزهر الشريف فيها، والمجامع الفقهية، وعلماء المسلمين وفقهاؤهم ودُور الفتوى في البلدان العربية والإسلامية موقفهم الشرعي من مسألة الخلافة ومن يدعو إليها في زماننا في ظل النظام الدولي المتعارف عليه والذي ارتضته والتزمت به الدول والمجتمع الدولي المعروف بمنظمة الأمم المتحدة.

(*) رئيس المركز الإسلامي للدراسات والإعلام