ماراتون الساعات السبع لجلسة الحكومة اللبنانية التي انتهت إلى إجماع على التزام الإجماع العربي، هل يمهّد لتراجع المملكة العربية السعودية عن قرارها «مراجعة شاملة» للعلاقات مع لبنان ووقف الهبة الممنوحة لجيشه وقوى الأمن الداخلي؟ وهل تكفي جولة لرئيس الوزراء تمّام سلام على عواصم خليجية في مقدِّمها الرياض، لتبديد غضب السعودية مما آلت إليه الأمور، بعد تمادي أطراف لبنانيين في حملات تهجُّم على الخليج وسياسات دوله… لمجرّد إرضاء طهران؟
وإن كان أحد لا يشكك في نيات سلام وحرصه على علاقات لبنان مع الدول العربية والخليجية خصوصاً، فالأزمة أكبر بكثير من مجرد النيات الطيبة، فيما تكرّس شواهد عديدة وممارسات، انزلاق البلد بعيداً عن وجهه التعدُّدي العربي، وأن بعض أطرافه أباح لنفسه ما حرّمه على الغير… كل ذلك تحت لافتة حماية لبنان من الإرهاب و «التكفير».
أكبر بكثير من بيان للحكومة، أن يصرّ بعضهم في فريق 8 آذار على أنه الطرف الوحيد الذي يحتكر الحرص على وحدة اللبنانيين وحماية وطنهم، ويبيح لنفسه تصنيف السياسات العربية والتدخُّل في شؤون دول عربية وفي قراراتها، لا لشيء إلا لأنها تتعارض مع رغبات إيران وأهدافها.
ومرة أخرى، يوجَّه السؤال إلى 8 آذار وتوابعه، عما إذا كانت سياسة الاستقواء بطهران ونفوذها، ومشروعها لتطبيع علاقاتها مع واشنطن التي كانت «شيطاناً أكبر»، تخدم لبنان وأمنه واقتصاده، أو تنسجم مع دستوره الذي يحدد هويته وانتماءه؟ ألم تكن الحملات المتمادية في التهجُّم على دول خليجية، الوجه الآخر لنهج إيران المدّعية احتكار الحرص على مصالح المسلمين وعلى أمن الخليج، و «رفاهية» اللبنانيين؟
«رفاهية» اللبنانيين لا تخفي نفسها وراء بكاء 8 آذار على «المظلومين في البحرين واليمن»، ولا تتوارى وراء «نعيم» العراقيين الذي صنعته الأصابع الإيرانية و «دهاء» قاسم سليماني. «نعيم» اللبنانيين صارخ، إذ تكتظ بلادهم بالسياح، ودورة الاقتصاد في أبهى حلّة، وفرص العمل متاحة لكل متخرّج، والفنادق عامرة بأفواج الأميركيين والروس الذين يأتون للتعلُّم من تجربة صمود دولة فاشلة!
لكل لبناني أن يستعرض أي بقعة في العالم العربي وضعت إيران لقدمها موطئاً فيها، والمصير الذي آلت إليه، بدءاً من قطاع غزة، مروراً ببغداد «المختبئة» في المنطقة الخضراء، وانتهاء بصنعاء التي سقطت في قبضة حلفاء طهران، بعد خديعة. ما تطلبه إيران من حلفائها أن يكونوا مجرد أدوات، ودائماً تحت ستار مواجهة «الفتنة». ومرة أخرى السؤال هو عمّن افتعل الفتنة، ومَنْ ادّعى الترفُّع عن المذهبية فيما هو يؤجّجها؟
لكل لبناني ان يستعرض ما قدّمته دول الخليج، والسعودية خصوصاً، على مدى عقود، وهو يدرك أنها لم تطلب شيئاً في المقابل يمسّ مصالح لبنان، ولم تطلب ثمناً، ولا دخلت البلد إلا من أبواب الدولة وشرعيتها.
معضلة بعضنا في لبنان أنه يتوهّم القدرة على النيل من أي دولة، وأي كان، بمجرد افتعال الصراخ لترديد نظريات صُنِعت على مقاس النفوذ «الإقليمي».
ومعضلته أنه لا يميّز بين خلافات دول شقيقة، قد تستمر ثم تُطوى، ومصالح الغير خارج الإقليم، حيث الرابطة الأولى تتبدّل وفق الحاجة.
بعد كل ما فعلته دول الخليج تضامناً مع لبنان في محنه، وما فعلته السعودية من دون تمييز بين طوائفه وقواه السياسية، هل يكفي بيان لمجلس الوزراء اللبناني يقر بضرورة «تصويب العلاقة» مع الأشقاء، و «إزالة أي شوائب قد تكون ظهرت أخيراً»؟ كم من الوقت إذاً تحتاج حكومة سلام لتتيقّن من ظهور هذه الشوائب؟
حسناً فعل سلام بالرد على وزير الخارجية جبران باسيل الذي ما إن غادر الجلسة حتى فضّل أولوية الوحدة الوطنية على الإجماع العربي. المشكلة في رأيه هي لدى الدول العربية، ولبنان في أحسن أحواله، حكومة منسجمة بحكم النأي عن النفس، رغم عجزها طويلاً أمام أزمات معيشية. في كل الأحوال، بيان الساعات السبع، جاء دون حجم الأزمة التي يواجهها لبنان للمرة الأولى في علاقاته مع السعودية ودول الخليج.
ما ورد في البيان الرسمي السعودي عن «مصادرة ما يسمى حزب الله إرادة الدولة» يعكس مرارةً إزاء عزلة لبنان عربياً، وهي عزلة مفتعلة، خصوصاً بعد تدخُّل الحزب في القتال في سورية إلى جانب النظام وحلفائه الإيرانيين. وإن كان الحزب وحلفاؤه في 8 آذار يرددون ما هو صدى لرغبات طهران في الصراع الإقليمي، فالواقع أن تجويف الدولة اللبنانية يتسارع، ومعه يتّسع الشرخ بين اللبنانيين كلما طالت المغامرات، والرهان على قطف الثمن.
لبنان عربي مع أشقائه، أم «إقليمي» مع محور طهران- موسكو؟ مع مصالحه أم عدوٌّ لنفسه؟