مسؤوليتي الأولى في البنك الدولي كانت في اليمن (شمالاً وجنوباً)، ومن ثم كانت زيارتي الأولى لهاتين «الدولتين» صيف 1976. انتمى اليمن الشمالي في الحرب الباردة إلى المعسكر الغربي، وكانت علاقاته ممتازة مع معظم دول ذلك المعسكر، ومن ثم كانت المساعدات الغربية، ومنْهَا وخصوصاً العربية تتدفق عَلَيْه. لم يلق يوماً مسؤولو البنك الدولي مثلاً، صعوبة في تمويل المشاريع التي كان يتفق عليها مع حكومة اليمن الشمالي.
اما اليمن الجنوبي ذو المنحى الشرقي الشيوعي حينذاك، فكان كبير المساحة وقليل السكان. عدد سكانه لم يتجاوز المليوني نسمة مقارنة بـ14 مليوناً في اليمن الشمالي. لذلك كَانت هناك صعوبة في اجتذاب الموارد لتمويل مشاريع التنمية، خاصة أن المساعدات الانمائية للدول الشيوعية كانت مباشرة ومعظمها عينية.
وبينما كَانت لبعض مدن الجنوب بنية تحتية قديمة بناها الاستعمار البريطاني، لم تكُن لمدن الشمال شبكات للمياه والكهرباء والصرف الصحي والطرق الداخلية، كون اليمن الشمالي لم «يستفد» من قوى استعمارية طوال تاريخه كي يبني البنية التحتية في البلد.
جرّب العثمانيون كثيراً احتلال اليمن من دون جدوى وبخسارة بشرية فادحة، فأصبحت أغاني الحزن التركية مرادفة للخسارة العثمانية البشرية في اليمن.
كانت الحرية في اليمن الشمالي مطلقة. العلاقة بين سكان العاصمة صنعاء حساسة جدا خاصة أنهم ـ الى أهلها الأصليين كأي عاصمة ـ جاءوها من أنحاء البلاد ومن الهاربين من النّظام الشيوعي في الجنوب. اما في المدن اليمنية الباقية، فيسود التجانس بين سكان كل منها، وتسيطر الثقافة العشائرية على معظمها.
في الجنوب، سادت الشيوعية في عدن فقط، فكان على اي موظف حكومي طلب إذن رجل المخابرات في وزارته او ادارته الحكومية للاجتماع على حدة بمسؤول في المنظمات الدولية. في المحافظات الجنوبية الباقية، برغم السيطرة الشيوعية علَى الحياة اليومية للمواطن، بقيت العلاقة بين الناس يمنية بامتياز.
ما جمع اليمينيين في الشمال والجنوب انهم وطنيون أولاً وآخراً من دون ولاءات اخرى. كذلك يجمعهم حبهم لتخزين القات، الشجرة التي حلت في الشمال مكان أشجار البن ولها مفعول القهوة وتستلزم كثرة المياه. كان الجنوبيون يهوون زيارة صنعاء من اجل جلسة قات بعد الغداء تستمر الى العصر. لكن ما كان يفرق بين البلدين تعلق الشمال، خاصة مناطق شمال صنعاء، باستقلاليتهم وفرديتهم التي حالت دون ان ينجح مستعمر في احتلالهم. فالمصريون الذين اعتقدوا ان جيشهم ذهب الى اليمن لتحرير شعبها من استبداد الامام البدر، لم ينجحوا في تطويعهم وأُجبروا على الانسحاب بعد حرب 1967 برغم ان كثيرين من اليمنيين ما زالوا يحفظون الجميل لمصر والرئيس جمال عبد الناصر.
حتى في الجنوب الذي استعمرته بريطانيا العظمى لأكثر من قرن من الزمن، بدأت رياح الاستقلال تهيمن على الحياة الوطنية منذ خمسينيات القرن العشرين، خاصة مع عودة يمنيين من متخرجي الجامعة الأميركية في بيروت والجامعات المصرية الذين حملوا معهم افكارا جديدة تتعلق بالقومية العربية واليسار. كانت المقاومة في الجنوب عنيفة وشرسة، فأجبرت البريطانيين على الانسحاب من عدن والمناطق الاخرى العام 1967.
يشهد اليمن اليوم حرباً داخلية سبّبتها الانتفاضة اليمنية التي بدأت العام 2011 على حكم الرئيس علي عبدالله صالح بعدما استمر حكمه منذ العام 1978، على اثر مقتل الرئيس عبدالله الغشمي الذي حكم اليمن عاماً واحداً بعيد اغتيال الرئيس «الشعبي» ابراهيم الحمدي.
وبرغم ان الثورة على علي عبدالله صالح قامت ضد الفساد ومن اجل بناء نظام ديموقراطي، سرعان ما تسلم زمام الاحتجاجات والتظاهرات اصحاب المصالح والمتضررون من الحُكم الطويل لصالح. وبعدما رفض مبادرة خليجية لإحلال نائبه الجنوبي مكانه لفترة انتقالية لا تزيد عن سنتين، قبل بها صالح غداة رجوعه من السعودية حيث عولج جراء احتراق وجهه من صاروخ اصابه في القصر الرئاسي. غير ان الفترة الانتقالية التي بدأت العام 2011 طالت، فبدأت حينئذ تظهر معالم المذهبية بين الزيديين في الشمال والشوافع في محافظات اليمن الجنوبية والشرقية. منذ القرن السابع الميلادي وحكام اليمن، الإمام ورؤساء الجمهورية من بعده زيديون.
في الوقت نفسه، بدأ الرئيس الجديد عبد ربه منصور هادي، وهو شافعي من جنوب اليمن، تجريد جماعة الرئيس السابق من صلاحياتهم في الحكومة والقوات المسلحة وإقالتهم، ما حمل صالح على القيام تدريجياً بالتحالف مع الحوثيين، أعداء نظامه منذ أوائل هذا القرن، وقد خاض قتالا عنيفا ضدهم بالتحالف مع السعودية.
جمعت المصالح والمذهبية بين صالح والحوثيين، فتحالفا ضد الرئيس الانتقالي ـ الذي بدا كالدائم ـ عبد ربه منصور هادي وقد ظهر ضعيفاً ومن دون تأييد شعبي او عسكري يذكر، سوى منظمة «حراك» التي تهدف الى اعادة تقسيم اليمن الى شمال وجنوب.
وبان جهل الجوار لليمن عندما نقلوا سفاراتهم الى عدن لدعم هادي وحركة الانفصال من دون اي تقييم لموازين القوى هناك، فأكمل التحالف الزيدي مسيرته من مدينة تعز الشافعية نحو الساحل الجنوبي وحاصر عدن بعد يومين، فهرب هادي واعوانه وأغلقت السفارات الجديدة مكاتبها، وأصبحت معركة الحوثيين مع تنظيم «الحراك» الانفصالي وربما تنظيم «القاعدة».
أحرج الوضع الجديد السعودية. في ايام الصراع السني الشيعي، حيث تتزعم المملكة الفريق الأول وتتزعم إيران الثاني، اصبح من الصعب عليها تجاهل التطورات اليمنية. العلاقات بين الزيديين وايران التي بدأت منذ مدة على المستوى الديني، انتقلت في هذا القرن الى تعاون وثيق بين الحوثيين الزيود وإيران في المجالات السياسية والمالية والعسكرية، برغم عدم وجود إيرانيين في اليمن كما تؤكد المصادر الأميركية.
ولا بد هنا من الإشارة الى ان العلاقة بين اليمنيين والسعوديين شبيهة بتلك بين اللبنانيين والسوريين، وتتراوح بين الاخوّة والمصالح من جهة، والكره والتقاتل من جهة اخرى، مع التقدير بصعوبة عيش احدهما من دون الآخر. لذلك تذكّرني الضربات السعودية الجوية على اليمن بتلك التي كان يتلقاها اللبنانيون، وخاصة المسيحيين، من السوريين. كان السوريون يهدفون الى «تركيع» اللبنانيين ونجحوا في احتلالهم عشية الحرب الكونية على صدام العراق، وفرض الوصاية عليهم، من دون ان تَكُون لدى السوريين إستراتيجية الخروج من لبنان. والجميع يعرف النهاية ولا حاجة الى التذكير والترداد.
دخلت السعودية في المعمعة اليمنية، من دون ان تَكُون لديها إستراتيجية الخروج مِنْهَا. الحصيلة معروفة مسبقا: هدم ودمار وقتل، الى زيادة الكراهية بين الشعبين «الشقيقين»، بهدف تركيع اليمنيين وخاصة الحوثيين الزيود. تعاونت السعودية لتحقيق هذا الهدف مع اكثر من عشر دول سنية منها مصر التي أرجو ان لا تكون قد نسيت تجربتها في اليمن في ستينيات القرن الماضي.
في الماضي، كان الاحتلال والاستعمار يدومان عقودا وقرونا. اليوم في القرن الحادي والعشرين، باستثناء إسرائيل المغفورة خطاياها دائماً من المجتمع الدولي، لا يدوم التركيع اكثر من سنوات عدة، لا بل أشهر.
هنا ايضا على العائلة الحاكمة السعودية ان تنتبه الى ما ردده الرئيس الأميركي باراك حسين اوباما في مقابلة مع كبير الصحافيين الأميركيين توماس فريدمان. قال اوباما انه سيكون صريحا مع السعوديين وأهل الخليج، وسيقول لهم بان الخطر على أنظمتهم لن يكون من الخارج، وبالذات من ايران. الخطر من الداخل. من أيديولوجية الأنظمة تلك وممارستها الحكم. ولو تذكر الرئيس اوباما الحرب على اليمن لكان اضاف ان الخطر على الأنظمة الخليجية قد يأتي من هذه الحرب ان طالت، تماما كما حل لسوريا من جراء «وصايتها» على لبنان، ولإسرائيل بعد اجتياحها للبنان العام 1982.