لم تتضّح بعد ماهية التغيير في السياسة السعودية الجديدة، بعد تنصيب الملك الجديد سلمان بن عبد العزيز. لكنّ قناعة تتكوّن لدى السنة اللبنانيين من خارج تيار المستقبل بأن المملكة مقبلة على «مرحلة توازن»، ما يعني انفتاحاً على الجميع بعيداً عن «حصرية» الرئيس سعد الحريري
ما يقوله عتاة رموز في تيار المستقبل عن أن «الحكم السعودي الجديد يُعدّ لإقامة توازن في المنطقة من دون التورّط في القتال أكثر»، لا يتلاءم كثيراً مع الاعتقاد السائد في أوساط الفريق المقرّب من المقاومة، الذي يرى أن الرياض تعمل على «تشكيل محور مذهبي لخلق توازن مع محور المقاومة». إلّا أن ما يمكن وصفه بـ«الانفتاح السعودي»، يلائم إلى حدّ بعيد القوى السنية الموجودة خارج عباءة المستقبل، بغضّ النظر عن مدى حجمها وتأثيرها، والتي استفادت من سنوات غياب الرئيس سعد الحريري عن لبنان، شأنها شأن التيارات التكفيرية التي استفادت من الفراغ والترهل الذي يعصف بالتيار الأزرق.
لا شيء هذه الأيام على لسان المقرّبين من الرئيس نجيب ميقاتي وفريق الوزير السابق عبد الرحيم مراد إلّا الإشارة إلى أن «السعودية تسعى لترتيب البيت السنّي».
من المصالحة مع قطر وزيارة الأمير تميم بن حمد آل ثاني للسعودية ثمّ زيارة ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن نايف لقطر، وزيارة رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء الباكستاني نواز شريف للمملكة، إلى «التساهل» السعودي المستجدّ مع «الإخوان المسلمين»، كلّها إشارات تبدو بالنسبة إلى ميقاتي ومراد الذي بات يرأس حديثاً تجمّعاً لشخصيات سنيّة تحت مسمّى «اللقاء الوطني»، «إشارات إيجابية ودلائل على أن السعودية ستفتح في المرحلة المقبلة أبوابها للجميع، من خلال إلغاء حصرية سعد الحريري».
وإن كان «إلغاء الحصرية» يبدو عنواناً أقرب إلى التخيّلات منه إلى الحقيقة بالنسبة إلى أحد أبرز الفاعلين في تيار المستقبل، وإلى أكثر من مصدر في فريق 8 آذار، إلّا أن «حالة التفكك التي أصابت التيار في السنوات الماضية، والتقدم الذي يحققه خصومه المحليون، ونيّة السعودية عدم استبعاد أحد»، تضع على سلّم أولويات ميقاتي ومراد التقرّب من المملكة، إلى جانب استمرار العمل على انتزاع ما أمكن انتزاعه من «الحصّة الحريرية» في سنّة لبنان.
أبعد من «مرأب التلّ»!
الزيارة الأخيرة للحريري للبنان تركت انطباعات عند أكثر من جهة في الداخل اللبناني. تقول مصادر اطّلعت على مجريات الإعداد للاحتفال الذي أقيم في بيال في ذكرى 14 شباط، إن «الحريري طلب أن يكون المتحدّث السياسي الوحيد»، كذلك فإن «الوضع الأمني الآن أخطر من قبل، فما الذي دفع به إلى العودة سوى قوله للسعودية إنه موجود وحاضر؟». وتوضح المصادر أن «سلسلة الرسائل التي وجهها الحريري في خطابه، لا تخرج عن إطار إعادة صياغة نفسه استعداداً للمرحلة السعودية المقبلة، ومحاولته إثبات دوره قائداً وحيداً للأغلبية السنية، عبر تبنّي العناوين السعودية في الحرب على الإرهاب، وتوجيه رسائل إيجابية الى أطراف الحكم الجديد، لا سيّما الأمير محمد بن نايف ووزير الدفاع وولي العهد الجديد الأمير محمد بن سلمان، أي إن الحريري عرض بضاعته في السوق أمام السعودية».
من هنا، يقول مقرّبون من ميقاتي إن «الحريري أراد القول إنه ليس حصرياً لأن السعودية تريد ذلك، بل لأنه موجود حصرياً على الأرض». فميقاتي الذي أتى بعد خروج مدوٍّ للحريري من رئاسة الحكومة، في حكومة صنّفت تحت خانة «التبعية لحزب الله»، لم يخرج عن الخطوط العامة التي رسمتها السعودية للتوازن في لبنان، إلى درجة أن من جهدوا ليأتوا به إلى رئاسة الحكومة في فريق 8 آذار «ترحّموا» على حكومة الحريري السابقة، لأن «ما فعله ميقاتي لمصلحة السعودية لم يكن باستطاعة الحريري نفسه فعله»، كما يقول أكثر من مصدر وزاري ونيابي في 8 آذار. ويذهب مقرّبون من رئيس «تيار العزم» في الحديث عن تمدّد الأخير، «من الوظائف العامة والخاصة، إلى النفوذ في المنتديات». ويلمّح هؤلاء الى أن النزاع الحالي بين ميقاتي والحريري حول مشروع مرأب التل في طرابلس هو، في الواقع، تنافس على «الحيثية» في عاصمة الشمال، إذ إن «ميقاتي في تصريحاته الأخيرة حول المشروع يقول للحريري: لا أريد إلغاءك، ولكن لا تحاول إلغائي». ويقول المصدر: «لم يعد في إمكان الحريري أن يقول الأمر لي في طرابلس، من المنطقة الاقتصادية الحرة إلى التعيينات»، لافتاً الى أن ميقاتي «لا يعمل بكلّ طاقته بعد. لا يزال يتكتك، ولم يبدأ استراتيجيته بعد، في المال والخدمات، إضافة إلى علاقاته الدولية، قبل أن يظهر الأبيض من الأسود وتتّضح معالم المرحلة السعودية الجديدة».
«اللقاء الوطني» والسعودية
وإذا كان ميقاتي «لا يكشف كل أوراقه الآن»، فإن مراد، الذي كان دائماً صديقاً لسوريا وحزب الله و«لم يكن يوماً عدواً للسعودية»، كما يقول أحد اللصيقين به، «لا يوفّر جهداً في تثبيت نفسه على الأرض في البقاعين الغربي والأوسط، وقريباً جداً في بيروت».
في البقاع، يترك غياب المستقبل وتنافس رموزه فراغاً كبيراً: خلافات بين النائبين جمال الجراح وزياد القادري، وخلافاتهما مع الوزير السابق محمد رحّال الطامح الى مقعد أحدهما النيابي؛ غياب النائب عاصم عراجي في البقاع الأوسط؛ مساعدات مصدرها الامارات يوزّعها الجرّاح في القرى باسمه الشخصي بدل اسم تيار المستقبل أو الحريري؛ تمدّد الحالة السلفية… في كل ذلك، يجد مراد وفريقه هامشاً واسعاً للعمل. وتؤكّد مصادره أنه «خلال العام الماضي أصبحنا القوة الخدماتية الأولى في القرى السنية والشيعية والمسيحية، بشبكة واسعة من المساعدات والتوظيفات والمنح في مؤسساتنا التربوية، إضافة إلى المستشفى الذي يملكه حليفنا محمد القرعاوي، إضافة الى تعويض ضعف البلديات في أشغال الطرق والمساعدة مؤخراً في إزالة الثلوج بطاقم آليات حديثة». ويتابع المصدر: «ألغينا معادلة أن المستقبل المدعوم مالياً هو المسيطر. أنصار المستقبل لا يحصلون على أي مساعدة من التيار الأزرق، والشركات الأمنية انتهت، حتى إن الحريري باع مستوصفه في تعنايل. الناس يقولون الآن: قطّارة عبد الرحيم مراد أحسن من بئر الحريري الجافة».
ومن البقاع إلى بيروت، يقول المصدر إن «مراد أعلن قراره بدء العمل في بيروت بعد الاحتفال الكبير الذي أقامه حزب الاتحاد في البيال العام الماضي، ثمّ تابعنا بعد حفل تخريج 2000 طالب في احتفال حضره 12 ألف شخص في قلب بيروت، بينهم عدد كبير من البيارتة».
كلّ هذا الحضور «العملي» في «الساحة السنية» تدعمه، بحسب المقرّبين من مراد، «علاقات مراد مع مصر، وعلاقات متشعبة مع رموز حزب الطليعة السابقين الذين انتقلوا الآن إلى مراكز قيادية في أكثر من دولة عربية». ويربط فريق مراد بين «ترؤس مراد اللقاء الوطني، الذي يضمّ 18 شخصية سنية بينهم ثلاثة نواب، تمثّل الصوت الآخر للسنّة في لبنان، وهؤلاء ليسوا أعداءً للسعودية»، وبين «سياسة الانفتاح السعودية الجديدة، التي من مصلحتها استقطاب الجميع للتصدي جدياً للتمدد التكفيري».
وتشير المصادر إلى أن «سفراء دول أوروبية وعربية عدّة في بيروت، إضافة إلى سفراء روسيا وإيران والصين، بدأوا نقاشاً جديّاً حول ضرورة الاستماع إلى أصوات سنية أخرى غير الحريري، بعد الفشل الذي راكمه الأخير على مدى السنوات الماضية». ويؤكّد المصدر أن «اللقاء الوطني سيطلب قريباً لقاء السفير السعودي في بيروت، حتى لو كان الجواب السعودي سلبياً، للتأكيد على أننا لسنا أعداءً للمملكة». مسألة أخرى يتقاطع على الإشارة إليها فريقا مراد وميقاتي، هي أن «الرجلين قاما بواجب التعزية بوفاة الملك عبدالله». لكنّ ما يلفت إليه المقرّبون من مراد هو أنه «بسبب سوء إدارة المستقبل لعزاء الملك الراحل عبدالله في مسجد الأمين في بيروت، شعر عدد من الشخصيات السنيّة بالإهانة، على عكس ما حصل في العزاء الذي أدارته السفارة بعد وفاة ولي العهد الراحل نايف بن عبد العزيز».
لم يصل أحد إلى الاقتناع بأن السعودية ستتخلّى عن الحريري الذي «يحبّه الملك الجديد سلمان على محبّة والده»، كما تقول إحدى شخصيات 8 آذار البارزة. لكن لا أحد مقتنع أيضاً بأن «السياسة السعودية الجديدة ستستمر في إقصاء الأصوات الأخرى لمصلحة حصرية الحريري، بعد أخطاء السنوات الماضية الفادحة».
الحريري من مصر: لسنا أعداء إيران
استقبل الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي الرئيس سعد الحريري في مقرّه في قصر الاتحادية في القاهرة أمس. كما زار الحريري مقر مشيخة الأزهر الشريف، والتقى الإمام الأكبر شيخ الأزهر الدكتور محمد أحمد الطيب. واعتبر الحريري بعد لقاء السيسي أن «الاعتدال هو بمواجهة كل أنواع التطرف وليس نوعاً واحداً منه، إن كان التطرف الإيراني أو التطرف الذي نراه في داعش والنصرة». لكن الحريري أشار إلى أنه «في موضوع إيران لدينا ملاحظات، ولكن هذا لا يعني أننا ضد إيران. نحن نريد أن تكون علاقاتنا بإيران لمصلحة لبنان وإيران معاً، وليس لمصلحة إيران فقط».