المسألة لا تحتاج لكثير من البحث والتدقيق. ثمّة شيء تبدّل في المنطقة منذ توقيع الاتفاق النووي الإيراني ولو أنّه لا يزال بطيئاً وفي بداياته في انتظار تفرّغ الإدارة الأميركية من معركة تمرير الاتفاق من خلال الكونغرس لتتولّى هي مباشرة دفع الامور بقوة.
الواضح شراسة المعركة الدائرة في واشنطن لتَصل الى كلام أميركي عن عودة الصواريخ الى اسرائيل في حال فشل إقرار الاتفاق، وهو ما يعني ضمناً نوعاً من انواع التهديد لإسرائيل.
لكنّ المناخ الجديد بدأ يلوح في الافق. في اليمن عودة الخريطة الميدانية الى توازن صنعاء – عدن. في العراق البدء بتطبيق اللامركزية كمقدمة ربما للعراق الفدرالي لاحقاً. في شمال سوريا هجوم تركي لضرب الاكراد وتشتيت قوّتهم ومنعهم من إقامة منطقة مستقلة تشكّل امتداداً لكردستان.
وفي تركيا أوّل كلام واضح عن الاستعداد للحرب الشاملة على «داعش». في طهران لقاء ثلاثي ايراني- روسي- سوري لتنسيق المواقف وتوحيد الرؤية حول الحلّ السوري، والاهم زيارة أحد ابرز رجالات النظام السوري الى السعودية ولقاؤه المسؤولين الكبار فيها.
كلّ ذلك يعطي انطباعاً واضحاً أنّ ثمّة اجواء جديدة بدأت تلفح المنطقة، لكنّها لا تزال أوّلية وتحتاج لقوة الدفع الاميركية التي ستتفرّغ بعد 17 ايلول المقبل.
وثمّة استنتاج آخر أنّ الملف السوري هو الموضوع الآن على الطاولة. وتبقى زيارة اللواء علي المملوك الى المملكة العربية السعودية محطّ اهتمام الجميع نظراً لمعانيها الاستثنائية خصوصاً أنّه التقى وليّ وليّ العهد نجل الملك الامير محمد بن سلمان.
صحيحٌ أنّ خبر تسريب اللقاء حصل من خلال مصادر سورية، إلّا أنّ المسؤولين السعوديين وضعوا ومن خلال قنواتهم الديبلوماسية كلاً من الامارات والاردن وفرنسا والولايات المتحدة الاميركية في أجواء ما حصل. ومن الطبيعي الاستنتاج ايضاً بأنّ دمشق وضعت كلاً من طهران وموسكو في تفاصيل اللقاء.
العارفون يؤكدون أنّ اللقاء لم يكن ناجحاً كما أنّه لم يكن فاشلاً قياساً كونه اللقاء الاول بين النظام السوري والمملكة التي تولّت قيادة الحرب لاسقاط الرئيس السوري. ما يعني ضمناً إقرار السعودية ببقاء الاسد في هذه المرحلة على الأقل وإقرار النظام السوري بالدور الاساسي للمملكة في التسوية السياسية السلمية المتوقعة.
وعن القبول باللواء مملوك قيل إنه بسبب علاقاته التاريخية الجيدة مع المسؤولين السعوديّين منذ ايام الملك الراحل عبدالله والذي كان يتردّد باستمرار الى دمشق. وأنّ المملوك طوّر علاقاته مع الفريق الجديد الذي وصل الى السلطة.
لكنّ الاوساط الديبلوماسية المطّلعة أشارت الى أنّ اجواء اللقاء كانت جافة وباردة. فالامير السعودي طالب دمشق بالابتعاد عن إيران لأنها وراء كلّ الكوارث التي تعصف في المنطقة وضرورة انسحاب الجيش الايراني من سوريا وأن يعود النظام السوري الى الحضن العربي وسيلقى كلَّ ترحاب ودعم.
في المقابل، عرض المملوك للاستهداف الذي تتعرّض له سوريا ما أدّى الى تمزّقها، وعرض مساعدة بلاده للمملكة في موضوع اليمن نظراً «لمونتها» على الحوثيين. وبقيَت المواقف متباعدة بين الطرفين والاتفاق الوحيد الذي جرى التفاهم عليه كان البدء بهدنة إعلامية لم تصمد سوى أيام معدودة.
الرئيس السوري بشار الاسد ردّ بدوره ومباشرة على كلام وليّ وليّ العهد السعودي خلال إلقائه خطابه الاخير. ففي هذا الخطاب تعمّد اطلاق وصف «الشقيقة» على إيران أكثر من مرة، ونفى وجود قوات إيرانية على الاراضي السورية مكتفياً بالاشارة الى مجموعات «حزب الله».
وفي مطلق الاحوال، لم يكن أحدٌ ينتظر نتائج معلَنة من اللقاء الأول بين دمشق والرياض، لا بل لم يكن أحد يتوقع حصول اللقاء الآن حتى. وفيما باشرت موسكو ترتيب الاوضاع التفاوضية لجبهة النظام من خلال اللقاء الثلاثي الّذي عقد في طهران لتكون العناوين التفاوضية جاهزة عندما تطلق واشنطن صفارتها في ايلول المقبل، كشفت مصادر مطلعة وموثوقة عن زيارة وفد إماراتي الى دمشق الاسبوع الماضي عنوانها تفقّد اوضاع مبنى السفارة في دمشق والاطلاع على احواله والتحضير لتنفيذ أعمال فيه ليكون جاهزاً فور اتخاذ القرار بإعادة فتح السفارة.
لكنّ الوفد الذي ضمّ مسؤولين أمنيّين تواصل مع مسؤولين أمنيّين سوريّين وتطرّق جانب من اللقاء الى موضوع الارهاب والجماعات المتطرّفة ومحاولاتها المستمرة لهزّ الاستقرار الأمني في منطقة الخليج والمعلومات التي تمتلكها دمشق جراء التحقيقات التي أجرتها مع معتقلين متطرّفين بسبب الحرب الدائرة في سوريا.
بالتأكيد ما كانت الامارات لتتحرّك لولا وجود تفاهم كامل مع السعودية. فالجميع يعلم عمق التنسيق القائم بين الامارات والسعودية في شأن مختلف المجالات خصوصاً السياسية والامنية.
وما حصَل يحمل دلالات كبيرة من دون إغفال الموقف القطري الايجابي جداً تجاه إيران. كلّ ذلك يعِد لبنان بانعكاسات إيجابية. بالتأكيد لن نتلقّى تلك الانعكاسات قريباً جداً، لكنها ستأتي حتماً مع التفاهم على الخطوط العريضة في سوريا.