حين يستقبل العاهل السعودي رئيس مصر٬ يتصدر الدور العربي في المنطقة بنود المحادثات. والأمر طبيعي تماماً. السعودية ومصر ركيزتان إلزاميتان لأي دور عربي فاعل. وأي لقاء استراتيجي بينهما يجعل البلدين قاطرة ديناميكية للعمل العربي المشترك. يكاد الوضع يشبه القاطرة الألمانية الفرنسية للعمل الأوروبي٬ على رغم اختلاف الظروف والمعطيات. طبعاً مع الإشارة إلى أن العلاقة بين برلين وباريس لا تشترط التطابق الكامل٬ بل تقوم على قراءة مشتركة للتحديات الأساسية في مجالات الأمن والسياسة والاقتصاد.
لائحة التحديات على طاولة المحادثات السعودية المصرية معروفة. الإرهاب الذي تمثله القوى الظلامية٬ وفي طليعتها «داعش». وزعزعة الاستقرار الناجمة عن الانقلاب الكبير الذي أطلقته سياسة تصدير الثورة التي انتهجتها إيران بمعزل عن ابتسامات هذا الرئيس وتلويح ذاك بقبضته. وانسداد الأفق بفعل استمرار سياسات الاستيطان الإسرائيلية. لكن لا يمكن تجاهل عوامل أخرى ساهمت في تراجع دور العرب في الإقليم هي السياسات العقيمة التي أّدت إلى تفاقم الفقر ومشاعر اليأس وشيوع مناخات الفشل والنكوص إلى الماضي.
تطور بارز وحاسم كان لا بّد للمحادثات من أخذه في الاعتبار وقراءة التحديات في ضوئه. قبل بلوغها عتبة المائة يوم٬ أحدثت إدارة دونالد ترمب تغييراً كبيراً في صورة أميركا ولغة التخاطب الدولية. نجحت في استعادة الهيبة بعدما استرجعت القدرة على اتخاذ القرار ووضعت القوة الأميركية الهائلة في تصرف الدبلوماسية للجم منتهكي التوازنات الإقليمية والحدود الدولية ومستلزمات السلم والاستقرار الدوليين.
وأظهرت تصريحات أركان الإدارة الجديدة وجولاتهم أن القراءة الأميركية الحالية للاضطراب الكبير الضارب في الشرق الأوسط تختلف تماماً عن قراءة أميركا أوباما٬ خصوصاً في ما يتعلق بالانقلاب الإيراني في الإقليم. وفي المقابل أظهرت زيارات المسؤولين السعوديين والمصريين إلى واشنطن اعتقاد البلدين بأن ترمب هو «الرئيس الذي سيعيد الولايات المتحدة إلى مسارها الصحيح»٬ وأنه استعاد في فترة قصيرة «جميع تحالفات الولايات المتحدة مع حلفائها التقليديين»٬ وفقاً لما قاله ولي ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان لصحيفة «واشنطن بوست».
إننا إذن أمام إدارة أميركية تح ّمل إيران مسؤولية زعزعة الاستقرار في المنطقة ولا تخفي رغبتها في العمل من قرب مع السعودية ومصر ودول الاعتدال العربي لمكافحة الإرهاب وإطفاء الحرائق الإقليمية. وواضح أن إدارة ترمب استمعت باهتمام إلى ما قاله زوارها العرب عن سوريا واليمن والمستوطنات وغيرها.
لا شك أن الشرق الأوسط يشهد صراعاً محتدماً سيؤدي إلى رسم ملامحه لعقود. من يرغب في الجلوس إلى الطاولة عليه أن يعد أوراقه. والأدوار تبنى وتصنع وتحتاج إلى صيانة دائمة في ضوء معطيات الداخل والخارج.
انقضى الوقت الذي كان فيه حجم الدور مرهوناً بالثقل السكاني أو أحجام الجيوش. في العالم الجديد للأدوار شروط جديدة. سلامة الاقتصاد وتقدم التنمية والتماسك الاجتماعي وإشراك الأجيال الجديدة في صناعة مستقبل بلادها. مؤسسات تدار بصرامة الأرقام والنزاهة والجدارة وبالتقويم المتواصل والمحاسبة.
يمكن القول إن السعودية تعّد نفسها للدور المحوري المتوقع لها. اتضح في العامين الماضيين أنها تملك تصّوراً لما يجب أن تكون عليه في السنوات المقبلة٬ خصوصاً لاقتصادها وعلاقته بالتغييرات التي طرأت على الاقتصاد العالمي. وتملك دليلا لبناء علاقاتها على قاعدة المصالح المتبادلة والشراكات. تملك برنامجاً لجعل الشباب السعودي العمود الفقري في معركة التنمية وتأهيل المجتمع لمجابهة التحديات الجديدة. الأوامر الملكية التي صدرت عشية القمة كانت شديدة الوضوح في هذا السياق.
مصر تحاول بدورها تأهيل نفسها للمرحلة المقبلة. معركتها ضد الإرهاب الذي يستهدف استقرارها ووحدتها ودورها لا تنسيها الواقع الاقتصادي الصعب. تحاول استيعاب الجرعات المؤلمة التي لا بد منها لخفض معدلات الفقر والبطالة وبث روح جديدة في الاقتصاد. معركة مصر الاقتصادية لا تنفصل أيضا عن معركتها ضد الأفكار التي تحاول اغتيال المدن وإعادتها إلى الكهوف.
لا بد من الجندي لمواجهة الإرهاب. ولا بد أيضاً من تنمية تجفف منابع اليأس. ولا بد من جامعات تدمج طلابها بعالم الثورات التكنولوجية المتلاحقة. لا بد من مؤسسات تضمن العيش في ظل القانون وتحمي كل المواطنين بلا تمييز. صناعة الدور تبدأ من التعليم والنوافذ المفتوحة والتخطيط ومراقبة التنفيذ.
لن يسترجع العرب حضورهم الطبيعي في الإقليم ما لم يسترجعوا دورهم. ولن يسترجعوا دورهم إلا إذا اتخذوا قرار الخروج من الجمود والانتظار ومواسم البكاء والحنين إلى الماضي. تبنى الأدوار بالجهد والمعرفة. ويبنى المستقبل بالأرقام لا بالأوهام. صناعة الدورين السعودي والمصري على أسس راسخة وعصرية وإقامة آليات تعاون ثابتة بين البلدين ستعيدان التوازن إلى الإقليم وستعيدان أدوار القوى غير العربية إلى أحجامها الطبيعية.