كلّف رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، الرئيس السابق للحكومة سعد الحريري، تأليف حكومة جديدة بعد انتهاء المشاورات في قصر بعبدا، ويأتي تكليفه من جزءاً من سياقين متكاملين، سياق ميثاقيّ يحوي في مضمونه مفهوم اللبننة، وسياق إقليميّ- دوليّ وعربيّ، سطع على كثير من الطراوة، وانسكب على الأرض اللبنانيّة كجدول تسوويّ جديد، أشّر بالتكليف إلى تلك الحقبة الجديدة فينبلج فجرها في لبنان، وتترسّخ شيئًا فشيئًا بالمضمون اللبنانيّ البحت، في جوف العهد الجديد برئاسة العماد ميشال عون.
لقد بدأ الحريري بالانغماس ببهاء هذه اللحظة، وسيرورتها في مرحلتها البدائيّة. أولى منطلقات الانغماس، كلمته التي ألقاها بعد خروجه من اجتماعه برئيس الجمهوريّة، وقد اعتبر أنّ هذا العهد عهده، وأكّد أنّه سيسعى إلى تأليف حكومة وفاقيّة، وهي على وزن ميثاقيّة، وتترجم بحكومة وحدة وطنيّة، وإقرار قانون انتخابات يؤمّن العدالة للجميع، ولا شكّ أنّه سيتجه نحو تجسيد المناصفة الفعليّة، وأهمّ ما قاله أنّ خطاب القسم الذي اجمع عليه كلّ السياسيين، سيكون المدماك الأساسيّ وحجر الزاوية للبيان الوزاريّ الذي سيصدر عن الحكومة اللبنانيّة، بروح ميثاقيّة متوثّبة ومضيئة وفاعلة.
ليست الميثاقيّة وبتلك المعايير منفصلة عن إرادة مرسومة لترسيخ الاستقرار وتأكيده بل تجسيده في هذا العهد، من خلال إجماع الدول على التهنئة بانتخاب العماد ميشال عون رئيسًا لجمهوريّة لبنان، وهذا عينه ما سيتم مع الحريري، مما يرفع منسوب التجانس الشخصيّ الموصول بالحرص على النجاح والفلِاح. فقد انهالت اتصالات التهنئة على العماد عون بانتخابه رئيسًا للجمهوريّة، من رؤساء الدول، ومن أمين عام الأمم المتحدة، ما هو لافت للغاية اتصالان، واحد بديهيّ للغاية من الرئيس السوريّ بشار الأسد، وآخر مستجدّ من العاهل السعوديّ الملك سلمان بن عبد العزيز وقد قال بأنّ السعوديّة ستقف إلى جانب لبنان. الاتصال الأوّل بديهيّ، نظرًا للعلاقة الشخصيّة بين الرئيسين، القائمة على الاحترام المتبادل والمحبّة الجامعة، ويتذكّر كثيرون قولة الرئيس السوريّ الشهيرة، «العماد عون خاصمنا بشرف وصافحنا بشرف»، أمّا اتصال العاهل السعوديّ، فهو مستجدّ نظرًا لما شاب العلاقة بين العماد عون والمملكة من التباسات فاقعة ونافرة للغاية اتجهت بمضمونها إلى قراءة حرفيّة للعماد عون في حقبة ما قبل العهد، وللمسار اللبنانيّ المتقاطع بجزء منه مع الداخل السوريّ، وتشديدهم على اتفاق الطائف كوعاء متين في الحفاظ على السنيّة السياسيّة كمرآة تعكس الوجه السعوديّ البارز من لبنان على مستوى المنطقة بعد احتراق معظم أوراقها من سوريا إلى اليمن. فجاء اتصال العاهل السعوديّ مظهرًا الوجه الإيجابيّ للمملكة بعد أن استلحقت نفسها بالظهور ضمن مفهوم إنضاج اللحظة الجديدة وإيناعها بوصول العماد عون إلى رئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة.
هل تؤشّر الاتصالات إلى حالة نوعية جديدة في العلاقات مع لبنان من ضمن حسابات جديدة تتجلّى من لبنان وتتّسع نحو المنطقة؟ النوعيّة ليست في حصر الاتصال حتمًا بالجوّ البروتوكوليّ المفروض من لحظة الانتخاب ومن ثمّ لحظة التكليف وبعد ذلك التأليف، بل بالمحتوى السياسيّ المؤلّف لتلك النوعيّة، والذي يسمو عن إرهاصات المرحلة السابقة وتداعياتها محاولاً الارتقاء من الساحة اللبنانيّة ومن مساحة العهد الجديد لتكوين تسوية أو على الأقل خطّة تسووية تكون العناوين اللبنانيّة موادّ لاختبار نضوجها واختمار مواصفاتها كقالب يقدّم في مراحل مقبلة من لبنان إلى المنطقة. ليس إجماع الأضداد على الترحيب بالرئيس الجديد للجمهوريّة عابرًا وليس له أن يكون عابرًا، فالاستلحاق السعوديّ تكوينيّ بامتياز يتولاّه مع العاهل السعوديّ الأمير عبد الله بن سلمان في انتهاج منطلقات سياسيّة جديدة تحفّز المملكة لتقديم نفسها بحلّة جديدة غير صداميّة، بعد اكتشاف عدد من الأمراء كارثية النتائج على مستوى المنطقة وارتدادها على الداخل السعوديّ.
وبرأي خبراء إن تبويب هذا النضج الجديد، وإن اهتدى إلى المختبر اللبنانيّ، لكنّه ناقص أمام استمرار فجاجة الخطاب بتراكمه الأعمى والعنيف على مستوى المنطقة، ذلك أنّ المعيار الجديد في مبدئيّة التعميم المشتهى، التخلّي عن الإرهاب بسلوكياته الفاحشة والعبثية، والتطلّع إلى أنماط جديدة في العلاقات مع المكوّنات الأخرى، وبخاصّة مع حزب الله في لبنان والحوثيين في اليمن والرئيس بشار الأسد في سوريا، وتشجيع من يلوذون في فلكها إبطال مفهوم السنيّة السياسيّة في لبنان بحرفيّتها المتشدّدة تجاه الآخرين والذهاب نحو التأكيد على الفلسفة الميثاقيّة، بدءًا من تسهيل تشكيل حكومة وحدة وطنيّة متوازنة وصولاً إلى قانون انتخابات تتأمّن فيه المناصفة الفعليّة والنسبيّة، وعدم جعل لبنان منصّة لإطلاق النار على سوريا.
ويعتقد هؤلاء الخبراء وفي معرض التقييم الاستراتيجيّ، بأن انتخاب العماد عون رئيسًا للبنان، قد تأمنت فيه العناصر المانعة من انبثاث التشنجات الفتنويّة المذهبيّة في الداخل اللبنانيّ، بمعنى أنّه لم ينفصل على الإطلاق عن المعطى العقيديّ الصلب المتكوّن فيه، وأساسه دعم المقاومة في مواجهة إسرائيل وفي مفهوم الحرب الاستباقيّة على الإرهاب لاقتلاعه من جذوره باستعماله فعل «لن نألو جهدًا»، وهذا لافت للغاية، وفي الوقت عينه سيكون منفتحًا بحرص كبير على الخليج العربيّ من ضمن هذا المعطى، وعلى رأسه المملكة العربيّة السعوديّة، يؤهّله بعده المشرقيّ والعروبيّ وحرصه الوطنيّ نحو هذا الامتداد، كما أنّه سينطلق بعلاقات طيبة مع الولايات الأميركية المتحدة وروسيا بتوازن مدروس.
من ضمن ذلك، وبحسب مصدر مسيحيّ محايد، سيكون رئيس الجمهوريّة ضنينًا بالعلاقات اللبنانيّة-السوريّة، والواضح أنّ ثمّة من يرمي السهام بوجه مضمون تلك العلاقات، فيما صمود الرئيس بشار الأسد في سوريا، ساهم بإنضاح انتخاب العماد عون رئيسًا للجمهوريّة، كما أنّ اتجاه المعارك في حلب نحو الحسم القريب، كان جزءًا من عملية وصول العماد عون إلى الرئاسة. لا يدلّ هذا الكلام على فقدان الخصوصيّة اللبنانيّة في ولادة اللحظة الجديدة، بيد أنّ الخطاب السياسيّ اللبنانيّ كان في أساسه مأخوذًا إلى الأحداث في سوريا ومنطلقًا من نتائجها ومعانيها، ومتجّهًا نحو رؤى جديدة في تدحرج ما كان مواجهًا لها وترسيم حدود سياسيّة جديدة فاعلة. ويجب الاعتبار بأنّ ثمّة عناوين تحتّم الاتصال المباشر بين الرئيسين اللبنانيّ والسوريّ، وبين الحكومتين اللبنانيّة والسوريّة، أهمّها موضوع اللاجئين السوريين، وهو موضوع شائك للغاية ويشبه إلى حدّ بعيد موضوع اللاجئين الفلسطينيين سنة 1948. احتضان لبنان للاجئين الفلسطينيين بلا ضوابط أمنية وسياسيّة واجتماعية، أدّى إلى انفجار لبنان، على مراحل حتى بلغنا الحرب الكبرى، وما يخيف بأن يفجّر موضوع النازحين السوريين الوضع في لبنان لنبدو أمام محطّة خطيرة مشبعة ببيئة حاضنة للإرهابيين التكفيريين الممعنين في ضرب مقوماتنا الوطنيّة والميثاقيّة في لبنان. وقد ثبت بأنّه حين ضربت تلك المقوّمات تبعثر لبنان وتمزق، فهل يتحمّل لبنان ضربات قويّة من هذا النوع مع بداية العهد الجديد؟ تجمع المصادر بأنّ الحلّ هو باتصالات مباشرة بين لبنان وسوريا، وتقول تلك المصادر بأنّ لقاء وشيكًا سيرتّب بين الرئيسين اللبنانيّ والسوريّ للتهنئة ومن ثمّ للبحث في مضمون تلك المخاوف الناتجة من تراكم أعداد اللاجئين على أرض لبنان، وإعادتهم إلى الأماكن الآمنة في سوريا. وعند السؤال ماذا لو اعترض الحريري عن مضمون اللقاء وحصوله؟ فتجيب بأنّ الحريري على الرغم من سلبيته خلال حديثه التلفزيونيّ الأخير تجاه سوريا، سيجد نفسه مضطرًّا للاندراج في رؤية رئيس الجمهوريّة الناضجة وهي السبيل الوحيد لإنقاذ لبنان وتحريره من عبء هذا الملفّ.
لقد كان واضحًا أن بيان المطارنة الموارنة في بكركي برئاسة البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، داعم بتعابيره الواضحة لهن العهد الجديد وأكّد على مضمون خطاب القسم أو العهد للرئيس عون، مذكّرًا بأن انتخاب الرئيس في لبنان تمّ في منطقة مملوءة بالحرائق المشتعلة، ويذكّر البيان بأنّ لبنان ليس بعيدًا عن مضمون تلك الحرائق. فالمتصارعون في سوريا هم أنفسهم المتصارعون في العراق، كما هم أنفسهم من تصارعوا في لبنان بالعمق السياسيّ وبالسياق المتوتّر في لبنان، ومن ضمنه كانت العمليات الإرهابيّة تطال العديد من المناطق اللبنانيّة. ليس انتخاب الرئيس معصومًا عن مسار تلك الأحداث، أو منفصلاً عنها. المسلّمات الاستباقية قد فعلت فعلها في تحقيق النصر، وهي عينها ستكوّن المحتوى الميثاقيّ. التحدّي الكبير على المستوى الاستراتيجيّ، أن تتحوّل الفلسفة الميثاقيّة إلى معطى متصدّ للإرهاب على كلّ المستويات، وهذا التحدّي على الحريري أن يكون شريكًا في إطلاقه والتأكيد عليه. اللقاء المسيحيّ-الإسلامي الجديد، ببعديه المشرقيّ والعربيّ على الأرض اللبنانيّة وفي حقيقته الميثاقيّة، لقاء بوجه الإرهاب التكفيريّ، ورئيس الجمهورية أب لتلك الأطروحة، وبوجه إسرائيل الآحاديّة التي ما فتئت منذ اليوم الأول لانتخاب الرئيس عون تهاجمه وتهاجم المعطى الذي اوصله إلى سدّة الرئاسة.
ليس التحدي قائمًا بالتكليف أو التأليف، وإن بدا لبعضهم بأن ثمّة نتوءات قد تظهر نافرة وفاقعة في مسارّ التأليف، بل ببيان حكوميّ سيستوحي من خطاب العهد الخطوط الأساسيّة ويجسّد المنطلقات الميثاقيّة بتلك المسلمّات وببناء دولة قوية وقادرة، وهو ما يشتهيه ويرجوه ويعمل له رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون للمرحلة المقبلة.