وفي النهاية، وجدَت السعودية نفسَها أمام خيارَين أحلاهما مُرّ: إمّا السكوت عن التمدُّد الإيراني في الخليج، وإمّا المواجهة. وفي الحالين، يخشى الباحثون انهيارَ الاستقرار الخليجي التقليدي، المسَمّى «الحلم الخليجي»!
ليس مهمّاً السؤال الذي يُطرَح اليوم: لماذا أخذت السعودية على عاتقها خيار المواجهة مع الحوثيين، وتالياً إيران؟ بل المهمّ هو السؤال: لماذا سكتَ السعوديون في أيلول الفائت عن سقوط صنعاء في أيدي الحوثيين؟
في مطلع الخريف، ووسط صمتٍ تامّ سعودي وإقليمي ودولي، أُتيحَ للحوثيين أن يجتاحوا صنعاء. ويقال إنّ السعودية وجدت آنذاك فرصةً لضرب «الإخوان المسلمين» وتنظيم «القاعدة» اللذين يهدِّدانها على حدودها.
وفي لحظة معيّنة، ارتأَت أنّ الحوثيين، بالتحالف مع حليفها الرئيس السابق علي عبدالله صالح، يمكن أن يضعوا حدّاً للخطر الداهم الذي يتسبّب به «الإخوان» و«القاعدة». ورأى السعوديون أنّ مِن المناسب أن يتمّ ذلك بأدوات وطنية يَمنية، ما دام الحوثيون يتعهّدون بأنّ انتصارَهم لن يجعل اليمن مقرّاً للنفوذ الإيراني، بل سيمهِّد لتسوية سياسية. وثمَّة مَن أقنعَ السعودية بأنَّ القبائل الحوثية الكبرى لا توافق على أيّ خطوة تشكّل تهديداً للأمن السعودي.
إذاً، وجَد السعوديون أنّ سيطرة الحوثيين تبقى مغامرة قليلة الأكلاف قياساً على سيطرة «الإخوان المسلمين». وراهنوا على التنسيق مع قبائلهم، ما يَمنع تحوُّلَهم أداةً إيرانية لتهديد الأمن السعودي. وهذا الموقف أثار ردوداً مستغرَبة حتى في العديد من الأوساط السعودية التي لم تكن مقتنعة بهذه المغامرة.
وشَبَّه بعض المحلّلين أيلول 2014 في صنعاء بأيار 2008 في بيروت، عندما انقضَّ «حزب الله» على السلطة وفرضَ سيطرته على القرار. ففي بيروت، كان الخيار إمّا القبول ببسط «الحزب» سلطته وإمّا الحرب الأهلية. وفي اليمن، المعادلة مشابهة.
واعتقدَ السعوديون، في نهايات عهد الملك الراحل عبدالله بن عبد العزيز، أنّ إيران ستكون في حاجة إلى التفاهم معهم، في لحظة حاجتها إلى إبرام إتفاق مع المجتمع الدولي حول الملف النووي. ولذلك، راهنوا على واقعية إيرانية تمنعهم من «مدِّ أيديهم» إلى داخل البيت الخليجي العربي الذي تقوده السعودية. وهذه المراهنة شبيهة بالمراهنة على أنّ «حزب الله» سيرضَخ للتسوية بعد خروج السوريين من لبنان.
لكنّ حسابات البيدر السعودية لم تنطبق على حسابات الحقل الإيراني. ومدَّ الإيرانيون جسراً جوّياً لتزويد الحوثيين بما يحتاجونه من دعم عسكري. وبعدما سيطرَ الحوثيون على صنعاء، أظهروا تشدّداً وتلاحماً مع طهران، وتابَعوا سيرَهم إلى الجنوب ودخلوا قصرَ الرئيس عبد ربّه منصور هادي.
فهل اكتشفَ السعوديون أنّهم وقعوا في الخديعة الحوثية؟
ثمَّة باحثون يقولون: لم تقَع المملكة في الخديعة. فهي عندما اختارَت «غَضّ النظر» عن السيطرة الحوثية، لم تفعل ذلك بمَحض إرادتها. والمطروح عليها عملياً يومذاك كان أحد خيارَين: إمّا أن تسمح بسيطرة إيران على اليمن، عبر الحوثيين، وإمّا أن يبدأ اللعب الإيراني باستقرار المملكة الداخلي، أي اللعب بورقة الشيعة في السعودية وسائر الخليج العربي.
ووفقَ هؤلاء، وافقَ الملك الراحل، على مضَض، على تمدُّد الحوثيين في اليمن، لعلّ ذلك يوقِف الطموحات الإيرانية عند هذا الحدّ. ولكنّ طهران ستواصل، على الأرجح، مساعيَها إلى تطويع الخليج، سواءٌ اعتمد السعوديّون سياسة المهادنة أو المواجَهة. وهذا ما يحصل اليوم.
مع بداية العهد السعودي الجديد، قرّرت الرياض أن تتصدّى للتوسّع الإيراني، بدءاً باليمن، لاقتناعها بأنّ السكوت يعني التمدُّد الإيراني في داخل البيت، وأنّ أكلاف المواجهة لن تكون أكبر من أكلاف المهادنة. وعندما بدأ الحوثيّون يهاجمون عدن، اتّخذَ السعوديون قراراً فاجَأ الجميع: تنفيذ ضربات جوّية. وانضمَّ إليهم الحليف المصري.
لكنّ طهران كانت واضحة: سيكون الردّ على السعودية أضعافاً. وأمّا الحوثيون فهدَّدوا بنقل النار إلى قلب السعودية. وهنا يعود الخليجيون العرب إلى المأزق إيّاه: هل يواجهون إيران فتندلع الحرب، أم يتركونها تسيطر؟