«اول غيث» زيارة رئيس القوات اللبنانية سمير جعجع الى السعودية رعايته مؤتمرا حول «الارهاب» امس، طبعا القصة لا تبدأ ولا تنتهي برسم مليون علامة استفهام حول أهلية «الحكيم» في التصدي لهذه الظاهرة، وانما حول «بركات» المكرمات الملكية التي تركت بصمتها الواضحة في «المحاضرة القيمة» التي تقدم بها «الحكيم» في شرحه لاسباب ولادة ظاهرة «داعش» وكيفية القضاء عليها، طبعا لمن فاته الاستماع الى خبرات جعجع في هذا السياق، نعلمه ان «داعش» ولدت يتيمة لا «اب» لها ولا «ام»، وغذاؤها الروحي ليس مبنيا على عقيدة اسلامية فاسدة، الحل فقط عسكريا ومعالجة اسبابه في سوريا والعراق، وليس في العملية اصلاح ديني في السعودية، وليس في تصحيح منهج الفكر الوهابي، وليس في الفساد الاجتماعي والديني في دول الخليج عموما والسعودية خصوصا، فالرئيس الاميركي باراك اوباما قالها لحلفائه في الخليج ان المشكلة «داخل المنزل» عالجوها قبل فوات الاوان. كتاب سعوديون تجرأوا على حكومتهم وطالبوها باصلاحات في المنهج التربوي والتضييق على بعض علماء الدين، لكن بالنسبة الى «جعجع» لا شيء من كل هذه الاسباب مهم، المهم ان لا يغضب القادة الجدد في المملكة، ولا بأس بدفن «شعار» «حيث لا يجرؤ الاخرون» فالمرحلة صعبة ولا تحتاج الى جرأة وانما الى «الف كلمة جبان ولا كلمة الله يرحمه» طبعا المقصود هنا «الموت جوعا». لكن هل هذه المقدمة تلخص نتائج زيارة «الحكيم» للسعودية؟
الجواب هو بالنفي طبعا، وبحسب اوساط ديبلوماسية في بيروت، ثمة مخاوف جدية من توريط السعودية لرئيس القوات اللبنانية «بلعبة» اكبر من حجمه الداخلي والاقليمي، فرئيس تكتل التغيير والاصلاح النائب ميشال عون لا يشكل بالنسبة الى السعوديين اولوية، ولا يرون فيه خصما يحتاج الى استراتيجية جديدة لاستكمال المواجهة معه، فتيار المستقبل يتولى هذه المهمة بنجاح، ولذلك لا يرون في تفاهم «الحكيم» معه اي ضرر اذا كان رئيس القوات، كما شرح خلال زيارته، يستفيد منها لتعزيز حضوره السياسي و«تلميع» «صورته»، دون ان يقدم «للجنرال» اي تنازلات تفيده في مشروعه السياسي الملتصق بحزب الله. ولذلك ترك تقدير الموقف في هذا السياق الى جعجع الذي سيتحين فرصة ارتكاب عون لـ«هفوة» غير قابلة للهضم، لتبرير تراجعه عن اعلان النوايا المشترك. لكن السؤال الملح كان حول ما يمكن فعله لتصعيد المواجهة مع حزب الله؟ وما هي القدرات الفعلية لجعجع في هذا السياق؟ وكيف يمكن ترجمتها على ارض الواقع؟ طبعا لم تكن في «جعبة» جعجع اجابات واضحة او افكار جاهزة حول طبيعة ما يملكه من «اوراق»، لكنه وعد بتقديم بعض «الافكار» في وقت لاحق. وفي الانتظار تم ابلاغ جعجع رسميا انه من الان اصبح بالنسبة الى المملكة الحليف المسيحي الرئيسي لها في لبنان، وستعمل الرياض على دعم القوات اللبنانية ماليا وسياسيا، ولن يكون تيار المستقبل ممرا الزاميا لهذه العلاقة، وكان لافتا غياب الرئيس سعد الحريري عن اللقاءات الرسمية مع المسؤولين السعوديين، وهي اشارة واضحة باعتلاء جعجع مرتبة جديدة تؤهله الجلوس مع القيادات في المملكة دون «محرم».
وفي مقارنة بسيطة بين زيارتي جعجع ووفد حركة حماس برئاسة رئيس المكتب السياسي خالد مشعل إلى السعودية قبل اسبوع يظهر جليا ان السعوديين لم يعطوا أي معلومات بشأن زيارة وفد حماس، حتى ان وكالة الانباء السعودية الرسمية لم تورد اي خبر عنها، علما ان الزيارة استغرقت ثلاثة ايام. في المقابل فان زيارة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع حظيت باهتمام اعلامي سعودي رسمي وغير رسمي. لا يعني ذلك ان زيارة وفد حماس لم تكن هامة للمملكة، فوراء الزيارة اشياء قد تكون «اكبر» مما قيل ولكن النتائج تحتاج إلى وقت لظهورها، لكن العنوان الرئيس لكلتي الزيارتين هو السعي لتجميع «اوراق قوة» لمواجهة ايران وحزب الله، واذا كانت حماس تحتاج الى مزيد من الوقت لدراسة العروض المقدمة، بسبب تعقيدات الخلاف بين القيادة في الداخل والخارج، والعلاقة مع الاخوان المسلمين، وحراجة الموقف مع مصر، فان جعجع لا يعاني من كل هذه التعقيدات. لكن هل التفت احد الى وجود رئيس الاستخبارات السعودي الفريق خالد الحميدان في لقاء «الحكيم» مع ولي ولي العهد الامير محمد بن سلمان وعدد اخر من الوزراء والمسؤولين السعوديين؟ وهل من سبب وجيه لذلك؟
تلك الاوساط تخشى من محاولة سعودية لتوريط جعجع في ملف العلاقة مع اسرائيل، لملاقاة الاستراتيجية الاسرائيلية التي تتحدث عن ضرورة التفكير من «خارج الصندوق» والبحث جديا عن حلفاء في العالم العربي «المتغير»، فبعض الدول وفي مقدمتها السعودية لديها مصلحة في الاتفاق مع اسرائيل لمواجهة الخطر الايراني، وهذا الامر يحتاج الى بلورة «صيغة ما» لاتفاق مع الفلسطينيين يشكل نقطة تحول بالنسبة لاسرائيل مع بعض الدول العربية التي تحتاج الى كسر هذا الحاجز «النفسي» للانطلاق في علاقة مباشرة ودون خجل مع اسرائيل، بدل العمل والتنسيق «مواربة»، كما هو حاصل اليوم.
وفي انتظار تبلور الملف الفلسطيني، وامام استعجال الرياض في جمع اوراق القوة لمواجهة ايران، لا ترغب المملكة في ان تكون في الواجهة في مرحلة «جس النبض» التي بدأت تظهر ملامحها المربكة، فاللقاء في الولايات المتحدة بين دوري غولد وانور عشقي سبب اضرارا جانبية لا ترغب بها الرياض، رغم ان اللقاء لم يكن رسميا، وتصريحات الامير الوليد بن طلال الاخيرة تبدو محرجة، ولذلك ترغب السعودية بطرف موثوق يتولى المهمة ولا يؤدي «احتراقه» الى اي اضرار مباشرة للمملكة. ويبقى السؤال هل يقبل جعجع بهذه المهمة؟ وهل هو قادر على تحمل وزر تبعاتها؟ وماذا عن التداعيات على الساحة اللبنانية؟ طبعا لا جواب حاسم حتى الان، لكن اذا صح ما كشفته ويكيليكس عن موافقة «الحكيم» عام 2014 على ارسال شخص من طرفه للإجتماع والتنسيق والتعاون مع إسرائيل، فان الامور لا تبشر بالخير؟
وفي هذا السياق تذكر تلك الاوساط، بان التجربة خلال السنوات القليلة الماضية مليئة بالاخبار السيئة او النهايات الكارثية لكل من حاولت الرياض اعطاءه دورا يتجاوز حجمه الفعلي، وللمفارقة فان ثلاثة «رجال» اوكلت اليهم السعودية بمهام رئيسية وحملوا على عاتقهم عبء تنفيذ استراتيجيتها على الساحة اللبنانية، انتهى بهم المطاف الى نهايات مأساوية، فرئيس فرع المعلومات اللواء وسام الحسن ذهب ضحية «لعبة» سعودية ورطته في «لعبة امم» تتجاوز امكانياته، ومساعده «اللوجستي» النائب عقاب صقر يعيش متخفيا ومتواريا عن الانظار، وهو غير قادر على مجرد القيام بزيارة الى لبنان، ويعيش متنقلا بين دولة اوروبية واخرى، يتلفت حوله، وهو في حالة توجس دائمة حتى من اقرب المقربين. اما رئيس تيار المستقبل سعد الحريري فهو ما يزال في «غربته» القصرية حتى الان، وهو يدفع ثمنا سياسيا باهظا نتيجة القبول بمهمة تامين المظلة السياسية لاستراتيجية سعودية عجزت حتى الان عن حماية اي من حلفائها في لبنان وفي الساحات الاخرى. فهل يتورط جعجع الان بمهمات لا طاقة له عليها؟ وهل بامكانه رفض الرغبات السعودية «المدفوعة الاجر»؟