بصرف النظر عن الوضع المالي الدقيق للدولة اللبنانية، يبقى التركيز على نقطة محورية في النظام المالي تتعلّق بحجم التحويلات والاموال التي تدخل الى النظام المصرفي سنوياً. فهل المؤشرات مُطمئنة في هذا الاطار، ام ان أوضاع الخليج، «الحديقة الخلفية» للاقتصاد اللبناني، تؤشّر الى أزمة؟
هناك «مقولة» للممثل السوري الراحل حُسني البُرزان، زميل غوار الطوشي في مسلسل «صح النوم»، يقول فيها «اذا أردنا ان نعرف ماذا يجري في ايطاليا، علينا ان نعرف ماذا يجري في البرازيل»… هذه المقولة تشكّل مطلع مقال كان يُفترض ان يُنجزه البرزان، الذي كان يلعب دور الصحافي في المسلسل. وكان يردّد هذه العبارة عشرات المرات في كل حلقة، الى حد أن المشاهدين حفظوها وردّدوها على سبيل التندّر.
اليوم، قد يكون من المفيد تكرار هذه العبارة مع تغيير الاسماء. اذا أردنا ان نعرف ماذا يجري في لبنان، علينا ان نعرف ماذا يجري في الخليج، المكان الذي تأتي منه، حسب تقديرات حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، نسبة 60 في المئة من تحويلات اللبنانيين.
لا يختلف اثنان على ان الأوضاع المالية في دول الخليج، ليست في احسن حالاتها، ولا يختلف اثنان كذلك على ان تحويلات اللبنانيين قد تتأثر سلبا بهذه الاوضاع الصعبة. لكن النقطة التي قد تشكل محورا لاختلاف وجهات النظر انما تتعلق بحجم تراجع التحويلات، في موازاة الوفر الذي سيتأمّن من خلال انخفاض الفاتورة النفطية على كاهل الدولة.
والواضح هنا ان حجم تراجع الفاتورة معروف، وهو يقارب الـ800 مليون دولار سنويا، لكن نسبة التراجع في التحويلات لم تتضح بعد، وهي تحتاج الى مزيد من الوقت قبل ان تصبح بديهية، خصوصا انها ستكون من خلال التدرّج ولن تأتي دفعة واحدة.
في هذا السياق، يمكن التذكير ببعض الأرقام التي قد تعطي فكرة عن الوضع المالي المأزوم خليجياً. في السعودية، سجلت الموازنة عجزاً يُقدّر بـ 25% (حوالي 160 مليار دولار). وقد لجأت المملكة الى الاستعانة بالاحتياطي وسحبت منه حوالي 70 مليار دولار في ثمانية أشهر.
كذلك عمدت السعودية الى اصدار سندات خزينة لتمويل العجز في الموازنة. وقد أصدرت حتى الان سندات بحوالي 20 مليار دولار. وهي لا تزال تحتاج الى حوالي 70 مليار دولار اضافية لسد عجز 2015. ومن المتوقع ان تواصل سياسة اصدار السندات في الفترة المقبلة.
هذا العجز الذي عالجته السعودية بشكل استثنائي في العام 2015، لن تستمر به في الاعوام المقبلة، وهي بالتالي ستلجأ الى خطوات اضافية، واسلوب مختلف للتصدّي لتفاقم العجز.
في هذا الاطار، يمكن ايراد المعلومات المتداولة عن اعادة النظر في مجمل النظام الضرائبي الذي كان يعتمد التساهل اكثر من المألوف في فترة الطفرة النفطية، وقد حان الوقت لتغيير هذا النهج، وفرض نظام جديد يتيح للدولة تحصيل المزيد من الاموال، خصوصا من المؤسسات والافراد الاجانب العاملين في المملكة، والذين يستفيدون مباشرة من خيراتها.
الى ذلك، باشرت المملكة تنفيذ اجراءات اخرى لتحصيل الاموال، منها قرار فرض رسوم على الاراضي البيضاء. والمقصود بهذا التعبير العقارات الصالحة لتشييد الابنية ولا يتم استثمارها من قبل مالكيها. ورغم ان القرار يهدف مبدئيا الى تشجيع المستثمرين على تشييد الأبنية، وعدم الاكتفاء بالمضاربات العقارية، الا ان النتيجة ستكون مفيدة للمالية العامة للدولة السعودية، وسوف تجني سنويا ما يقارب الخمسين مليار دولار، حسب تقديرات المتابعين للقضايا العقارية.
هذه الخطوات المتتالية، تعني ان مداخيل اللبنانيين العاملين في السعودية، سوف تتأثر مباشرة، ومن المرجّح ان تكون تداعيات تراجع أسعار النفط مُضرّة اكثر مما هي مفيدة للاقتصاد اللبناني بشكل عام.
وفي المناسبة، وانطلاقا من القرار السعودي بفرض رسوم على الأراضي البيضاء، ينبغي ان نسأل لماذا لا تبادر الجهات المعنية في لبنان الى استخدام العقار الأبيض لليوم الأسود، وتعمد الى تشكيل هيئة مختلطة من القطاعين العام والخاص لادارة المحفظة العقارية للدولة اللبنانية.
هذه المحفظة تضمّ ثروة كبيرة يتمّ اهدارها بعشوائية، وتدفع الدولة حوالي 150 مليون دولار سنوياً ايجارات لدوائرها الرسمية، في حين تُبقي على عقاراتها فارغة وغير مستثمرة، ومن دون أي تنظيم.
وما دمنا في زمن الهيئات الناظمة، لماذا لا يتم انشاء هيئة ناظمة تتولّى ادارة المحفظة العقارية للدولة. على الأقل، هذه الهيئة لديها ما تنظمه، على خلاف هيئات قائمة ليس لديها ما تنظمه، وقد أصبحت شبه عاطلة عن العمل.