ثمة قناعة اميركية بان لبنان لا يمكن جذبه الى محور دون آخر، و«اكذوبة» النأي بالنفس، تبدو خيارا مناسبا للادارة الاميركية الحالية التي نصحت المملكة العربية السعودية بأن تكتفي بـ«حصتها» على الساحة اللبنانية، لان اي شيء آخر بخلاف هذا الامر لن يحل المشكلة بل سيفاقمها وسيكون مغامرة غير محسوبة ستؤدي الى تفجير لبنان دون ان يؤدي هذا الامر الى حل مشكلة السعودية مع حزب الله.
هذا الكلام الاميركي المنقول عن اوساط ديبلوماسية يشير بوضوح الى خلاف في الاولويات لدى ادارة الرئيس باراك اوباما والسعودية، حول كيفية ادارة الصراع في المنطقة، ووفقا للمعلومات، فان الرياض ابلغت من راجعها من المسؤولين الاميركيين انها لا تريد «قلب الطاولة» على حزب الله في لبنان، اي ليست في وارد «توريط» حلفائها في مواجهة تدرك مسبقا انها غير متكافئة، لكن المملكة بدأت تعد ملفاتها التفاوضية قبل ان يباغتها الوقت وتذهب الى عملية تفاوض مع ايران دون «اوراق» رابحة بين يديها، وفي هذا السياق لا بد من ان يكون حزب الله جزءاً من اي عملية تفاوضية عندما توضع على طاولة البحث ملفات المنطقة، والسعوديون يريدون وضع الحزب في «سلة» واحدة مع تنظيمي «داعش» «والنصرة»، وكذلك تريد وضع حد لهذه «الظاهرة» التي كانت الاكثر تاثيرا على المستوى الميداني في افشال «مشاريعها» على مختلف ساحات المنطقة، ولذلك لن تتسامح السعودية ولن تقبل ان يبقى التعامل مع حزب الله على انه «ايقونة» لا تمس، باعتباره «رأس حربة» في مقاومة اسرائيل، وجزءاً من الحياة السياسية اللبنانية، بينما يدرك الجميع انه الاكثر قدرة على التأثير في مختلف الجبهات.
وخلال المراسلات الدبلوماسية بين السعوديين ومسؤولين اميركيين، كانت المملكة واضحة في محاولاتها لـ «تضخيم» خطر حزب الله، وباعتقاد السعوديين ما كان الروس ليأتوا الى سوريا بعد نحو 4 سنوات من اندلاع الحرب «لقلب» ميزان القوى لولا التدخل السريع والفاعل لحزب الله بعد فترة وجيزة من اندلاع الحرب، وخلاصة المعلومات الاستخباراتية السعودية تشير الى وجود قدرة هائلة لدى الحزب في التكيف مع الاحداث، وسرعة قياسية غير معهودة في قدرة القيادة العسكرية والامنية على مواكبة قرار القيادة السياسية، وهذا الامران لم يكونا متوافرين في طهران وموسكو، مع اندلاع الازمة، فللدول حساباتها وآليات عملها المعقدة، وهنا لعب حزب الله الدور المحوري في صمود النظام السوري، ونجح في اجهاض محاولات اسقاط دمشق، ومكن الجيش السوري من الحفاظ على سوريا «المفيدة» الى ان نضجت فكرة التدخل الروسي المباشر في الحرب، وزادت ايران من حجم تدخلها العسكري، وانتقلت من مرحلة المستشارين والمدربين الى مرحلة ارسال قوات برية وباتت تدير اليوم جبهات كاملة.
هذا الدور الفاعل للحزب لا يمكن للملكة ان تتسامح به، خصوصا انها تدرك جيدا ان ما قدمه الحزب من «استشارات» عسكرية وامنية مكّن «انصار الله» من ادارة حربهم الناجحة في اليمن، وافشل ايضا مشاريعها في العراق، ولذلك لا تريد ان يكون مصير الحزب جزءاً من ترتيبات داخلية لبنانية لن «تبصر النور»، وهي ترى فرصة سانحة لوضعه على «مشرحة» التفاهمات الاقليمية والدولية، وهو امر لا تعارضه واشنطن ولكنها لا ترغب بحرق المراحل، ولا توافق على «الاستراتيجية» السعودية التي تقدم «هدايا» مجانية للحزب، فلا قرار وقف تسليح الجيش اللبناني مفيد، ولا اضعاف الاقتصاد اللبناني يمكن ان يؤثر على الحزب، بل سيضعف القوى المناهضة له، كما ان لا شيء يضمن ان يبقى الضغط في حدود رغبة السعودية في الحفاظ على الاستقرار الهش، فيما تواصل «شيطنة» حزب الله وحشره في «الزاوية».
وبحسب تلك الاوساط، اذا كانت المملكة تريد اولا وقبل كل شيء تسديد ضربات موجعة لما تعتبره «مشروعا» ايرانيا في المنطقة، فان لواشنطن اولويات اخرى تتقدم على ما عداها، اولها امن اسرائيل الذي سيكون في خطر محدق اذا ما عمّت الفوضى على الساحة اللبنانية، كما ان للادارة الاميركية حسابات مختلفة مع الجمهورية الاسلامية الايرانية، فما بعد الاتفاق النووي مختلف عما قبله. الولايات المتحدة وبعد نجاح تجربة التفاوض مع طهران تحتاج الايرانيين في ساحات المواجهة المفتوحة في المنطقة من افغانستان والعراق واليمن، وصولا الى سوريا، وفي كل هذه الملفات وزن كبير للايرانيين، تدرك واشنطن ان الوصول الى تسويات لا يمكن ان يحصل من خلال فتح «جبهات» جديدة قد تفهم على نحو خاطىء في طهران، ولذلك ليست في وارد «مسايرة» السعوديين في غلوهم وتشددهم ازاء قطع «شعرة معاوية» مع ايران على الساحة اللبنانية، في ظل رهان اميركي على نجاح سياسة «الاحتواء» المفترض ان تؤتي ثماراها خلال السنوات المقبلة، من خلال استراتيجية اختراق الساحة الايرانية اقتصاديا و«اللعب» على ما يراه الاميركيون تناقضات بين التيار الاصلاحي والمحافظ، وهو ما ترى فيه السعودية رهاناً على «سراب»، وتعمية على حقيقة ان الحزب الديمقراطي يؤسس لبناء علاقة استراتيجية مع ايران لتكون «شرطي» الخليج، ولكن هذه المرة لن يكون تابعا للاميركيين كما كان الشاه، وانما ستكون علاقة في اطار «شراكة» تقوم على الندية بين الطرفين، وهذا سيكون على حساب موقع ودور المملكة في المنطقة.
في الخلاصة يلتقي الاميركيون والسعوديون على «خطورة» حزب الله، ويختلافان حول توقيت وطريقة مواجهته، في المقابل لا يبدو الحزب في وارد «التراجع» اي «خطوة» الى الوراء سيستمر في «التواجد» حيثما يجب ان «يكون»، وكل الجبهات التي يعرف انها بمثابة خط الدفاع الاول عن المقاومة سيكون حاضرا فيها، بعيدا عن «اللغو» و«الكلام الفارغ» والاصوات «التافهة» التي تتساءل عما يفعله الحزب في العراق، وسوريا، واليمن، بينما لا يسال هؤلاء عما تفعله واشنطن والرياض ومعهما «شذاذ آفاق» تم جلبـهم الى المـنطقة لوأد مـشروع المقاومة. ولذلك الحزب ليس في وارد الانكفاء او التراجع وخفض منسوب نبرته العالية، ويدرك ان حلفاء السعودية في الداخل عاجزون عن تقديم اي «خدمة» ذات منفعة لرعاتهم الاقليميين، وهم مضطرون للتعايش معه في الحكومة وطاولة الحوار، اي قرار آخر سيكون «انتحارا» لما تبقى للمصالح السعودية في لبنان، اذ يدرك الحزب جيدا ان السعودية ماضية في تصعيدها، فاجواء لقاء السفير السعودي علي عواض العسيري مع الرئيس نبيه بري لم تكن مطمئنة. الرياض تراهن على الوقت وتنتظر نتائج الانتخابات الاميركية، وستستمر في ضغوطها لفرض اجندتها التفاوضية على «الطاولة»، لكن ما يغيب عن بالها ان حزب الله ليس «سلعة» للبيع والشراء، وهو بالنسبة لحلفائه شريك اساسي في رسم المعــادلات في المنطقة، وليس مجرد اداة يمكن المساومة عليها …