مفاجأة مدوّية استباقية في سعي المملكة العربية السعودية٬ التي تعيش صعود سياستها الخارجية٬ مستلهمة من الاصطفاف الداخلي ودعم سياسات الحزم التي اتخذها الملك سلمان٬ والتي تختلف أدواتها ومناهجها بحسب كل حالة٬ إلا أنها تتفق حول هدف واحد معلن؛ إعادة هيبة الدولة العربية٬ وقطع الطريق على التمدد الإيراني عبر ميليشيات باتت تشكل عبًئا كبيًرا على دولها٬ بل وامتد ضررها إلى بلدان أخرى بحكم أن مسألة السيادة ليست على رأس أولويات ميليشيات تستمد شرعيتها من ارتفاع منسوب الفوضى٬ لا من قدرتها على خلق حالة استقرار سياسي.
رسالة السعودية وصلت٬ وبلغ صداها بيروت٬ مما بدا واضًحا من حالة الذهول والانقسام حول طريقة معالجة الرؤية السعودية الجديدة٬ عبر إعادة تعريف لبنان المختطف من قبل الميليشيات٬ إلى لبنان التنوع والتعددية السياسية التي فقدتها معظم القوى اللبنانية لصالح انفراد حزب الله بقرار الحرب والسلم والتدخل في المستنقع السوري٬ بل وتحول لبنان إلى باحة خلفية لحرب الميليشيات الشيعية٬ مع كل الانقسام الذي نقرأه الآن على لسان مسؤولين لبنانيين٬ إلا أن ثمة إجماعا على فداحة الخسارة بفقدان حليف داعم في كل الظروف كالسعودية.
مأزق لبنان الحقيقي ليس في مسألة المساعدات المالية٬ أو طريقة الخروج من الأزمة الرئاسية التي باتت دافًعا إلى تكريس حالة الشلل السياسي التي تعاني منها البلاد٬ بل مأزقه الأكبر في أنه تخلى عن مفهوم الدولة لصالح الميليشيا والحزب٬ ليس في طريقة إدارة الشؤون الداخلية وملف الرئاسة٬ بل في ملفات خارجية حرجة كالملفين السوري واليمني٬ والتدخل في قرارات دول الخليج السيادية٬ وهو ما يعني٬ بلغة غير مواربة٬ أن الحزب اختطف تمثيل لبنان لصالح أجندة ملالي طهران.
السعودية اليوم وهي تراجع بشكل شامل الحالة اللبنانية على أمل إيقاف حالة النزف السياسي التي تعاني منها البلاد٬ تلقى دعم دول الخليج التي أكدت عقب إعلان المملكة دعمها القرار٬ ودعوتها للعقلاء في بيروت إلى إعادة النظر في المواقف السلبية المستهجنة ضد المملكة٬ ليس فقط على المستوى الإعلامي٬ وإنما في الفشل في إيجاد صيغة توازن سياسي للقرار اللبناني بعيًدا عن التحّيز لموقف الحزب ورئيسه الذي يمارس المقاومة بالهجوم على المملكة وسياستها٬ وآخرها هجومه الطائفي المنحاز في قضية النمر٬ الذي بدا خلاله نصر الله يتحدث من قلب طهران٬ وليس من العاصمة اللبنانية.
المؤمل أن تدفع هذه المراجعة إلى تحشيد الكتلة السنية السياسية التي هي بحاجة إلى مراجعات جادة٬ إضافة إلى تأثير ما حدث على القوى المسيحية٬ حيث من المرشح أن تتقارب فيما بينها وتنهي الجدل حول مرشح الرئاسة عطًفا على التحول الكبير الذي أحدثه القرار السعودي الذي جاء في توقيت مهم إقليمًيا وحتى على مستوى المياه السياسية الراكدة في لبنان.
ليس أمام عقلاء بيروت سوى كبح جماح طغيان الميليشيا وإفسادها الحياة السياسية عبر استغلال منطق الدولة وتمرير أجندة خارجية كانت إحدى نتائجها الكارثية٬ عدا تعّطل الحياة السياسية في لبنان٬ تثبيت نظام الأسد الذي لا يزال يقتّص من شعبه حتى الآن بفضل الدعم الإيراني المباشر وعبر حزب الله الذي تعدى الملف السوري ليحاول النفاذ إلى اليمن عبر التحالف مع «أنصار الله»؛ الميليشيا التي تحاول إضفاء طابع حزب الله على الحالة اليمنية عبر استنساخه٬ ومن يتابع محتوى الخطاب السياسي لـ«أنصار الله» الحوثيين يدرك حالة التطابق التي تقوم على إعادة إنتاج شعارات الثورة الإيرانية وحزب الله٬ بل وصبغ ذلك بنكهة المقاومة٬ ومحاولة التركيز على قضية فلسطين والمظلومية التي تجد طريًقا أسرع إلى قلوب العامة٬ إضافة إلى شيطنة أميركا٬ التي أسهمت بتعجلها في توقيع الاتفاقية مع إيران٬ في إعادة الأمل لتمدد التشيع السياسي في المنطقة٬ والتحالف مع كيانات سياسية هشة قائمة على ركوب الموجة واستعداء دول الاعتدال بقيادة المملكة٬ بغرض الخصومة السياسية٬ وليس تعبيًرا عن موقف سياسي حقيقي.
آن الأوان أن يعاد تعريف لبنان الدولة٬ كما هي الحال مع الإرهاب الذي لا يقتصر على الإرهاب الفوضوي الذي تمارسه «القاعدة» و«داعش»٬ بل يجب الحديث والتركيز على إرهاب الميليشيات الشيعية في العراق ولبنان واليمن٬ التي تتخذ غطاء الدولة ومظلة التغيير السياسي لتمرير أجندتها الثورية ذات الطابع الانفصالي.
الإرهاب السني اليوم يتغذى على الإرهاب الشيعي ويغذيه٬ فالحرب تبدو بينهما في الظاهر٬ إلا أن هدفهما واحد٬ وهو الانقضاض على فضيلة الاستقرار وتحويل الحالة السياسية إلى مناخ حرب دائمة.