ودّع القائم بالأعمال السعودي وليد البخاري لبنان في 30 تشرين الثاني الماضي بتغريدة قال فيها: «إلى لقاءٍ قريبٍ، أرزةً نَبَتَتْ جُذُورًا… وغُصْنًا أبِيًّا في السَّماء»، تعليقاً على انتهاء مهامه في لبنان بعد تعيين سفير جديد هو وليد بن محمد بن سالم اليعقوب. وكان البخاري قبل وداعه هذا بـ 17 يوماً قد تمادى في إهانة لبنان وشعبه في نشر تغريدة له وصف فيها «دموع التماسيح»، تبعها هاشتاغ «سعد الحريري»، ما أدّى الى توحّد اللبنانيين عبر مواقع التواصل الإجتماعي حول مطلب واحد «أطردوا وليد البخاري»… واليوم، وبعد شهرين ونحو أسبوع على استعادة السعودية للبخاري يعود مجدّداً ليتسلّم مهام السفير اليعقوب الذي جرى نقله الى الرياض، في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات.
أوساط ديبلوماسية عليمة في بيروت أوضحت أنّ المملكة العربية السعودية تودّ إعادة علاقاتها مع لبنان الى سابق عهدها أي الى ما قبل إجبارها رئيس الحكومة سعد الحريري على تقديم استقالته من الرياض في 4 تشرين الثاني الماضي، وما سبق هذا التاريخ وتلاه من تشنّج وتوتّر وتهديد ووعيد للبنان وشعبه، جاءت على لسان مسؤولين سعوديين من وزير الخارجية عادل الجبير، الى وزير الدولة لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان وصولاً الى القائم بأعمال السفارة السابق في لبنان وليد البخاري.
ومن هذا المنطلق، وإنّ كان البخاري قد غادر لبنان بطلب من بلاده وبعد حنق اللبنانيين على تصرّفاته لا سيما بعد إجبار الحريري على تقديم استقالته من الرياض، فإنّ السعودية تعيده اليوم مكان اليعقوب بعد أن رقّته في آب الماضي الى رتبة وزير مفوّض في وزارة الخارجية، لأنّها تجد فيه «رجل المرحلة»، على ما قالت، الذي بإمكانه مواكبة التحضيرات للإنتخابات النيابية سيما وأنّه «عجن وخبز» الأوضاع في لبنان طوال فترة مهامه السابقة، فيما بقي اليعقوب لمدّة شهرين بعيداً كلّ البعد عمّا يحصل داخل الصالونات وفي الجلسات الخاصّة، ما جعله يبدو ضعيفاً في عين المملكة. وإنّ مثل هذا الأمر لا يُناسبها حالياً كونها تريد معرفة كلّ شاردة وواردة في الداخل اللبناني حتى موعد الإنتخابات المقبلة.
فالتمثيل الديبلوماسي السعودي اقتصر خلال أربع سنوات سبقت وصول اليعقوب على منصب القائم بأعمال السفارة والذي شغله الوزير المفوّض وليد البخاري، وذلك منذ شهر آب 2014 حتى تسليم اليعقوب أوراق اعتماده كسفير للبنان الى رئيس الجمهورية في 3 كانون الثاني من العام الحالي، بعدما أنهى السفير علي عواض العسيري مهامه في لبنان بعد خمس سنوات أمضاها سفيراً للسعودية فيه حيث جرى تعيينه في 21 أيّار من العام 2009. وكان الجميع يتساءلون لماذا عيّنت السعودية قائماً للأعمال وليس سفيراً لها في لبنان طوال السنوات الماضية التي شهدت فيها دول المنطقة حروباً ومعارك وتوتّرات. إلاّ أنّها اكتفت بتفسير ذلك بأنّ البخاري خبير بالأوضاع اللبنانية من خلال عمله السابق في سفارة لبنان.
أمّا سبب تعيينها اليعقوب فجاء بهدف حلّ الخلاف الديبلوماسي بينها وبين لبنان، سيما وأنّ المملكة لم تبلّغ الخارجية اللبنانية موافقتها على تعيين فوزي كبارة سفيراً للبنان فيها إلاّ بعد انتظار دام خمسة أشهر من تاريخ تبلغ السعودية باسم السفير اللبناني الجديد في الرياض. وجاءت خطوة قبول لبنان بتعيين اليعقوب كخطوة مماثلة لإعادة العلاقات الديبلوماسية الى طبيعتها، وبداية لحلحلة الأزمة التي نشبت بين البلدين على خلفية احتجاز الحريري في الرياض.
وأفادت الأوساط بأنّ السفير اليعقوب المولود في العام 1975، قد التحق بوزارة خارجية بلاده وحاز على ديبلوم دراسات عليا من معهد الدراسات الديبلوماسية التابع لها، وتدرّج في السلك الديبلوماسي حيث شغل منصب مستشار، كما عمل في سفارة المملكة في بيروت بين عامي 2010 و2014، قبل أن ينتقل إلى سفارة بلاده في باريس، بين عامي 2014 و2017. ثم عمل مع وزير الدولة لشؤون الخليج العربي مسؤولاً عن ملف لبنان، ما يدلّ على اطلاعه الواسع على الشؤون الداخلية اللبنانية، وإلاّ لما اختارته السعودية ليكون سفيراً لها في لبنان. غير أنّ كلّ هذه المواصفات، يبدو أنّها لم تكفِ السعودية لتبقيه في لبنان لا سيما في المرحلة الراهنة بالذات التي لا تفصلها عن موعد الإنتخابات المنتظر سوى أقلّ من شهرين، ولا بدّ لها أن تتحرّك فيها بشكل جدّي وفاعل.
أمّا اللقاء القريب الذي ذكره البخاري في تغريدته الوداعية فلم يطل، بل أتى بعد نحو شهرين على مغادرته بيروت، وكأنّه، على ما يرى بعض المراقبين، كان على علمٍ مسبق بأنّ تعيين اليعقوب سفيراً للممكلة في لبنان لن يدوم كثيراً وبأنّه سيعود قريباً. كذلك فإنّ عودته، بحسب الأوساط نفسها، كانت حتمية لا سيما بعد تلبية الحريري الدعوة للرياض ولقائه العاهل السعودي سلمان بن عبد العزيز آل سعود، ثمّ عودته الى لبنان وإعلانه لائحة مرشّحي «تيّار المستقبل» التي حملت شعار «نحنا الخرزة الزرقا يلّي بتحمي لبنان».
فالسعودية بعد أن قامت بمحاولة كسر الحريري سياسياً، علمت سريعاً لا سيما بعد اعتبار الرئيس عون احتجازها للحريري عملاً عدائياً على لبنان ما أدّى الى تحرّك المجتمع الدولي وعلى رأسه فرنسا باتجاه حماية لبنان، تيقّنت أنّها أخطأت. وما حصل على الساحة اللبنانية أظهر لها أن لا بديل عن الحريري لدى الطائفة السنيّة، ما دفعها الى إعادة النظر والى إعادة البخاري من منطلق جديد يُنسي اللبنانيين الإهانة التي قام بها قبل المغادرة.
ولأنّه لا يُمكن للسعودية ترك الساحة اللبنانية لـ «حزب الله» وإيران، على ما ذكرت الاوساط، ونحن على أعتاب الإنتخابات النيابية التي من شأنها إظهار حجم الأحزاب القوية في البرلمان الجديد، لهذا أعادت علاقتها مع الحريري الى ما كانت عليه في السابق، خصوصاً بعد أن أعلن أنّه لن يتحالف مع «حزب الله» ولا في أي دائرة من الدوائر الإنتخابية الـ 15، الأمر الذي جعلها، من وجهة نظرها، تطمئن على مستقبلها في لبنان والمنطقة من النفوذ الإيراني الماضي في التوسّع.