محاكمة السياسة السعودية الهوجاء في لبنان، من منطلق التفتيش عن مصلحة للرياض في التطورات السوريالية الأخيرة، تبدو أمراً عصيّاً. في التقييم الاجمالي لسلوك آل سعود، منذ إقالتهم رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري السبت الماضي، يبدو هؤلاء كمن أطلق النار على رأسه، لا على قدمه.
فالرياض دفعت ثمن تسوية إعادة الحريري إلى السرايا الحكومي، وصولَ ميشال عون إلى قصر بعبدا محمّلاً بتحالفاته وتفاهماته. إلى ما قبل ظهر السبت، كان لبنان، نسبياً، محيّداً عن الصراع الاقليمي مع حصة وازنة للسعودية فيه، على عكس خسائرها المتزايدة في سوريا والعراق واليمن. وإلى ما قبل تلاوته بيان الإقالة، كان الحريري رجل السعودية الأقوى.
في المنطق السياسي، لا مصلحة بيّنة لحكام الرياض في الخروج من التسوية، ولا في استقالتهم الحريري وإهانته والقضاء على مستقبله السياسي، حتى بدا لوهلة وكأن المشكل سعودي ــــ حريري وليس مشكلاً بين الرياض وطهران.
لن يُعطى السعوديون فرصة «تجويف العهد» وإفشاله
فما يقدم عليه السعوديون، في سياق مواجهتهم المفترضة لحزب الله، هو عملياً تفتيت لبيت الحريري السياسي الذي يعيش معه الحزب حالة صراع منذ 1992، كما يعيش تداعيات اغتيال الحريري الأب منذ شباط 2005. بعيداً عن الموقف المبدئي الرافض لاحتجاز رئيس حكومة لبنان ومصادرة قراره، لن يقيم حزب الله مجالس عزاء إذا ما عملت الرياض، عن سابق تصور وتصميم، على ضعضعة صفوف حلفائها في 14 آذار وتشظيتهم. تفتيت تيار المستقبل، واسطة عقد الفريق السعودي في لبنان، إلى تيارات، سيجعل ساحة 14 آذار ساحات شتى. إلا إذا كان الجموح السعودي وصل حدّ الاعتقاد بأن أشرف ريفي وفارس سعيد وسمير جعجع ودوري شمعون، قادرون على ما لم يقدر عليه سعد الحريري ووليد جنبلاط أيام «عزّ الـ2005». باختصار، الأداء السبهاني يحقق، على المدى الأبعد، مصلحة استراتيجية لخصم يتقن جيداً كيفية تحويل التهديدات إلى فرص.
في خطابه أمس، نصح الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله السعوديين بالتواضع في تحديد أهداف حملتهم ليتمكنوا لاحقاً من «بلع» فشلهم في تحقيقها. سلاح حزب الله بات في قلب معادلات اقليمية ودولية أكبر من «زعاطيط السبهان» وطروحاتهم وطاولات حواراتهم. وإبعاد الحزب عن التمثل في الحكومة لم يحدث في عهد «رئيس الفراغ» ميشال سليمان، ولن يحصل بالتأكيد في عهد حليف المقاومة الصلب. يبقى ثالث الأهداف السعودية: فراغ حكومي طويل يجوّف عهد ميشال عون، بعد رمي الحرم بما يمنع أي شخصية سنية وازنة من القبول بخلافة الحريري على رأس الحكومة. هكذا، يتعثّر العهد وحلفاؤه في تحقيق استقرار حكومي، مع خضّات أمنية لن يعدم السعوديون من يتولاها من حلفائهم من خلايا «النصرة» النائمة في لبنان، لإعادة تسعير الصراع السني ــــ الشيعي، وتأليب اللبنانيين على حزب الله.
لاعتبارات الحفاظ على الأمن والاستقرار، واستيعاب الجنون السعودي، تواصل معظم الأطراف السياسية اعتماد سياسة التريث في البحث في استقالة رئيس الحكومة قبل إطلاق سراحه. ولاعتبارات مبدئية وأخلاقية وسياسية، لا يزال شركاء الحريري في التسوية متمسكين به حتى عودته «ليبنى على الشيء مقتضاه». وهي عودة ستحصل بعد أن يخضع الحريري لـ«الارادة السامية» ويأتي بنفسه لتقديم استقالته من الحياة السياسية. بعدها، سيكون الحريري وتيار المستقبل ــــ كما عرفناه حتى اليوم ــــ صفحة من الماضي، لتنطلق مرحلة جديدة. ولكن، على الأرجح، لن يُعطى السعوديون فرصة «تجويف العهد». الدعوة إلى انتخابات مبكّرة واحد من الخيارات المطروحة، وغياب رئيس حكومة تصريف الأعمال لن يوقف تسيير عجلة الدولة. الذهاب الى انتخابات في ظل الزلزال الذي سبّبته السعودية بين حلفائها لن يكون أحلى الخيارات بالنسبة اليهم. وبعد الانتخابات امر واقع جديد تفرزه نتائج الصناديق، لا مصافحات المبايعة الصورية.